للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجهت إليها، بل نمت وتنظمت في جملة متسقة من الآراء التي تقوم عليها اليوم أسس فلسفة التاريخ والسياسة في بعض ممالك أوروبا. إن هذه الفلسفة تبلبل اليوم حياة المنيا وتولد الاضطراب في سياستها وتحدث شيئاً من الحمى في نفوس قادتها.

إن الذين يلاحظون مثلي بهدوء وسكون هذه العاصفة الهوجاء من الأفكار، ويدرسون بصورة مجردة النتائج التي تنشأ عنها يجدون في هذه التجربة الحادثة اليوم في منطقة واسعة من مناطق العالم المتمدن درساً نافعاً في الفلسفة الاجتماعية. وذلك أن مفهوم الأمة إذا ارتكز على فكرة الجنس الواهية - وهي كلمة مجردة غامضة لا تعريف لها - بدلاً من أن يبنى على الثقافة الجنسية والمصالح السياسية والاجتماعية التي تقوم عليها حياة الجماعة المنتظمة (الأمة)، فإنه يؤدي بالضرورة إلى أضرام العواطف الوطنية العمياء. ويكون للخوف من الغرباء، إذ ذاك، كلمة مسموعة في الوطنية الكاذبة. ولا حاجة بنا إلى القول أن في هذا التعصب الذي هو أكثر شراً من تعصب الأديان خطراً - لا محيد عنه - على حسن اتفاق الدول واتساق مصالحها المشتركة ومنافعها المتقابلة. أضعف إلى ذلك أن الأمم المتمدنة مركبة من عناصر قومية مختلفة الأجناس وإن هذه الأجناس، التي يزعمون أنها خالصة، مركبة هي أيضاً من عناصر أخرى. إن العناصر البسيطة لا وجود لها حتى في الكيمياء.

الأمة المتمدنة هي الأمة التي استطاعت دائماً أن تمثل بثقافتها العالية التي لا تقاوم جميع العناصر الغريبة عنها. هكذا كان العرب في أوج مدنيتهم الزاهرة. وإذا استثنينا دولة الأمويين بدمشق أمكننا أن نقول أن العرب لم يبغضوا الغرباء أبداً ولم يخافوا من ازدياد عددهم. فلم ينقرض سلطانهم لضعف سياستهم بل لأسباب عديدة منها الانحطاط والهرم الطبيعي وبغض الأخوة وعداوة الأرحام التي أثارت الطمع وولدت الميل إلى الغلبة والسلطان بين السلالات المالكة.

إن الأمة ذات العبقرية القادرة على إبداع ثقافة عالية لا تلجأ إلى بغض الغرباء في حفظ بقائها وصيانة استقلالها. فبينما تجد كثيراً من الأمم المتمدنة في أيامنا هذه مصابة بخوف الغرباء تجد فرنسة قد تركت أبوابها مفتوحة دون أن تخاف من الانحطاط تحت تأثير الغرباء واختلاطها بهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>