الانتباه ثم يطير حتى يبلغ المدينة التي تبوأها الملك الأعظم فيخرج من صحن ويدخل في صحن حتى يرفع له الحجاب ويلحظ الملك في جماله الذي لا يمازجه قبح وكل كمال بالحقيقة حاصل له وكل نقص ولو بالمجاز منفي عنه، وكله لحسنه وجه ولجوده يد، من خدمه فقد اغتنم السعادة القصوى، ومن صرمه فقد خسر الآخرة والدنيا وهكذا فإن السعادة القصوى هي في نسيان الشهوات وخدمة الأحد الحق، وقد ختم ابن سينا رسالة الطير بقوله:
وكم من أخ قرع سمعه قصتي فقال أراك مسّ عقلك مس أو ألم بك ألم ولا والله ما طرت ولكن طار عقلك وما اقتنصت بل اقتنص لبك، أنى يطير البشر أو ينطق الطير، كأن المرار قد غلب في مزاجك واليبوسة استولت على دماغك وسبيلك أن تشرب طبخ الافثيبمون وتتعهد الاستحمام بالماء الفاتر العذب وتستنشق بدهن النيلوفر وتترفه في الأغذية وتستأثر منها المخصبة وتجتنب ألباه وتهجر السهر وتعل الفكر، فأنا قد عهدناك فيما خلا لبيباً وشاهدناك فطنا ذكيا ولله مطلع على ضمائرنا فأنها من جهتك مهتمة، ولاختلاف حالك حالنا مختلفة، ما أكثر ما يقولون وأقل ما ينجح وشر المقال ما ضاع.
وقصارى القول أن هذه القصة كقصة حي ابن يقظان وقصة سلامان وابسال تدل على أن النفس لا تنال السعادة الحقيقية إلا بأعراضها عن الشهوات وتركها اللذات وتطلعها إلى المثل الأعلى، لأن لذة التفكير والتأمل تشبه لذة العبادة.
أن مذهب ابن سينا في الخير مذهب التفاؤل ونظريته في اللذة نظرية الكمال ورأيه في التجرد عن المادة وشواغلها للوصول إلى السعادة الحقيقية هو رأي المتصوفين كأن سعادة الإنسان في الدنيا لا تكون بإعراضه عن الدنيا وعدم التفكير في أوهامها.
إن فلسفة ابن سينا مضيئة بنور التصوف والتقشف ولا أظن أن هذا الضئيل قد أظلم في العصر الحاضر بل أن مدينة هذه الأيام قد تلوثت بأدران المادة، ولعل الأدران لا تزال إلا إذا انغمست ذبالة الحياة في شيء من زيت التصوف. ماذا يفعل البطالون؟ ماذا يفعل الجائعون؟ افيستمرون على عبادة المادة والمادة لا تغذيهم؟ ليرجعوا إلى الحياة الروحية، إلى الحياة الفكرية، لعل في الحياة الروحية غذاء لهم، وهذه الحياة الروحية لا تنافي التقدم والإنتاج والأخذ بأسباب المدينة، إن الشيخ الرئيس يؤمن بالعقل والعلم ويعتقد أن السعادة