معترك تنازع البقاء، وبياناً لذلك ننقل عبارة أديب إسحاق في مقالته ما هو الشرق؟ قال ما نصبه: على أن الأوروبيين وأن اختلفت آراؤهم في تعريف الشرق وتحديده، فقد اتفقوا على الاعتقاد بانحطاط الشرقيين عنهم في رتبة الوجود وتآلفوا على السعي في إذلال شأنهم وخفض مكانهم كما يدل على ذلك ما نسمع من أقوال خطبائهم، وما نقرأ من تصانيف علمائهم، وما نشهد من أعمال زعمائهم، فهم والحالة هذه عصبة على الشرقي من أي محتد وعلى أي مشرب كان، يصرفون عنايتهم إلى استخدامه واستبعاده ومحو استقلاله وفتح بلاده، فإذا اختلفوا فعلى تقسيم الغنيمة بين الفاتحين لا على وجوب الغارة (التمدينية) على القوم المتوحشين.
إن هذا الانفعال يستلزم كنتيجة منطقية طلب العدل والكرامة والاستقلال والمساواة التي لا تتحقق إلا برفع المستوى الاجتماعي وترقية التربية والتعليم، فتقليد الأجانب هو على ذلك الوسيلة للصعود من وهدة الانحطاط، ويستنتج أديب إسحاق قائلاً: ولا يكون الاستقلال جديراً بالصيانة إلا أن يكون مقترناً بالحرية، ولا حرية إلا بالحق المعين ولا حد للحقوق إلا بالعلم، ولا علم إلا بالحقائق، ولا حقيقة إلا بالبحث المطلق، ولا أطلاق للمقيدين بسلاسل الأوهام.
إن الشعور بالحاجة إلى العلوم الأجنبية هو شعور مبهم بين كتاب العرب، ومن هذه العلوم ما يحذر الأستاذ الإمام سوء تأثيره، وهي في نظر أديب إسحاق شرط للحرية، ولم يكتب شيء على الأنظمة الموروثة والتربية الشرقية أقسى مما كتبه الكواكبي على الاستبداد بقوله:
إن المستبد لا يخشى شيئاً من علوم اللغة التي لا بطولة وراءها ولا بلاغة ولا يخاف من علوم الدين التي لا تثير في طلابها حب الاستطلاع، وإنما هو يخشى غائلة علوم الحياة الحقيقة، ومعرفة الطبيعة والفلسفة والسياسة والتاريخ٠٠
وهكذا نرى أن إجماع الكلمة على الترقي العقلي كان يبطن اختلافاً شديداً في الآراء منذ بدء النهضة. أعني أن عمل التهذيب الشعبي الذي بدئ به في خاتمة القرن التاسع عشر كان يشعر بحركة الأفكار الحاضرة ويشتمل على بذور اختلافها.
ويظهر هذا الاختلاف على الأخص بالتباين في الأقوال والأفعال. فإن أقوال الكتاب لا