ثم يمضي مؤلف الكتاب قدماً في تنقيبه وتنقيره عن هذه المجالس. حتى يطوي مسافة العصور، فنسرح الطرف ونملئ الذهن ونثقف الذوق بما في هذا الأدب من بهاءٍ وبهجة ورونق وروعة. وقد ذكر أن مجلس السيدة دالامبير أثر في الأدب وإن المناظرات فيه دارت ما بين نصرة القديم ونصرة الحديث وكان مونتيسكيو وماريفو من نجوم سمائه فلم يكن للأثرة أثر في هذه الجماعة، وقد برز الخامل من بين الحظائر بنبوغه وتفتحت الأعين على رؤى الجمال والبدائع ومهد السبيل لذوي العبقريات من البؤساء والمساكين.
أطلعت على هذا كله ويزيد، فراقني هذا البحث الممتع وقلت لنفسي: إلا ليت أدباءنا يكتبون عن مجالس أدبياتنا في مطاوي الحقب الغابرة، ألم يكن لأدبنا العربي مجالس أشرقت فيها شموس النابغات ولمعت فراقد الأدبيات فكن يجتمعن إلى الأدباء والشعراء ويطربن من مجالستهم في الآداب الرفيعة؟ قلت هذا ولمع في خاطري خيال سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة والولادة بنت المستكفي وكثيرات ملئ بهن أبو الفرج أغانيه.
قال الأصفهاني صاحب الأغاني ناسباً الخبر إلى معمر بن المثنى إن الفرزدق خرج إلى المدينة. فدخل على سكينة بنت الحسين مسلماً فقالت له: يا فرزدق من أشعر الناس؟ قالت أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنيه عزيز ... علي ومن زيارته لمام
ثم سألته يا فرزدق من أشعر الناس فقال أنا قالت: كلا أشع منك الذي يقول:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
فقال الفرزدق لك الله تفضلين علي جريراً، فطيبت من نفسه وأعطته جارية لها وقالت يا فرزدق أحتفظ بها فقد آثرتك على نفسي.
وسكينه تعلم ما بين الفرزدق وجرير من مطاعنة الهجاء وسبة الكلام فشاءت التنادر عليه والعبث بشعره ففضلت عليه جريراً.
عاشت سكينة حياة أدب خالص، وكانت المدينة سكناها فأنشأت فيها مجلساً للأدب كان يحضره الأكابر من رجال قريش وتجتمع إليها الشعراء. وحدث أبو الفرج أنه اجتمع في