العقلية والبديعة الكائنة في تعليمنا الثانوي الذي يجمع أبداً بين الجمال والحقيقة باعتبارهما غير منفكين، وهذا هو الذي يسر أفئدة الأقوام الشرقية وينفذ إلى أعماق عواطفهم.
فالشرقي رجل لم يولد أمس، فهو يغتاظ عندما يسمع القول، باسم النفع والفائدة العلمية، إن الأدبيات القديمة في التعليم العربي جوفاء لا تعبأ إلا بالظواهر. لأنه يشعر بأنها على عكس ذلك ممتلئة وغنية، ويحس كالفرنسي المتوغل باللغات والأدبيات القديمة، بميزة عظيمة في شرح النصوص القديمة الكبرى. فرحمة باللغة الوطنية التي تمنح معرفتها الدقيقة الأفكار الفردية كل النبل المندمج في حضارة قديمة العهد! وليس هذا تقديساً للكلمة، بل إيماناً بأن جميع أسرار الأجيال القديمة والعرق ماثلة في الصيغ اللفظية وينكشف عنها الحجاب لمن يتقن القراءة حقيقة.
ولن يتسنى يوماً للشعوب العربية أن تحظى بثقافة أوروبية أخرى تتفق مع غرائزها الأصلية وتلقى هوى خلابا من نفوسها بدرجة هذا النوع من الثقافة.
ومن المعلوم أن أرقى الأفكار في سورية تستأنس بالثقافة العقلية القديمة بكل سهولة أي بثقافة تطلق الحرية وترفع الشأن مستندة إلى الكنوز القديمة. وهذه الثقافة تصلح لصوغ رجل العقل والرجل العالمي، وليست أقل شأناً من ذلك في غرس حب الوطن فيه، إذ يرى صورة نفسه، أبان مطالعة الآثار النفيسة في لغته، وهو وارث حضارة روحانية مستقلة. إن هذه الخاصة المزدوجة تتفق تماماً مع أماني الشعوب العربية، أي مع شغفهم الخاص في إنماء العقل وحاجاتهم الحالية المبرمة إلى تحقيق مراميهم الوطنية ومع التناوب بين الفكرة العالمية والفكرة الخاصة الذي هو أحد الأوصاف المميزة الثابتة للروح السامية. ففي دمشق، كما في بغداد، يكره العربي مبدأ الحرية السابقة لأوانها، الذي قد يكون ممتازاً لإخراج اختصاصيين ولكنه لا يصلح لتثقيف ما هو جوهري في الإنسان. إن روح تعليمنا الثانوي تتلاءم هنا مع إحدى خصائص التربية التقليدية العربية، التي كانت تعد الطفل لحياة اجتماعية ودينية بجعلها لغة القرآن موضوعاً درسياً أساسياً لانسجام الأفكار في العالم الإسلامي. بيد أن ميولاً حديثة أخذت تنمو في الحال الحاضر. فيرغب أن يكون طفل اليوم أحد أفراد وطن يندمج بعضه في بعض غداً. وحقاً، لا يرجح شيء على درس لغة الأم بتعقل وإمعان، من أجل إيقاظ الشعور الوطني، فهي ذخر مشترك وزبدة قرون وثمرة