الحضارة الغربية تارة ويتبعون صور الحياة الماضية أخرى فيتشوش عليهم الانتخاب ويختلط الأمر فتفقد أفكارهم اتساقها وتصبح حياتهم العملية عرضة للاضطراب والتبديل السريع.
والتقليد يجعل الإنسان شبيهاً بالآلة، ينقل عن غيره أصول التفكير والعمل من غير أن يكون له فيها حرية الاختيار. وإذا سار المرء زماناً على طريقة الإتباع دون الإبداع ونسج حياته بقواعد النقل لا بأحكام العقل أصابه ركود في الفكر وجمود في العواطف وصار كالآلة يتحرك بغيره لا بنفسه وإذا صار شبيهاً بالآلة خسر صفقته وانحط إلى أدنى درجات الحيوانية. وأي حال هي أشقة من حالة الركود الفكري والجمود النفسي. أفلا يصبح الإنسان فيها خالياً من الذكريات والأفكار والرغائب؟ كأن نفسه قد خلت من التصور وقلبه قد تجرد من العاطفة أو كأن صور الطبيعة المختلفة قد انقلبت إلى صورة واحدة، فلا ابتسام على ثغر الزهر ولا نور في أشعة الشمس ولا أمل في احمرار الشفق! كأن هذه الألوان قد تبدلت وانقلبت إلى لون وائد غامض كما تبدل ألوان الأشياء إذا رسمتها أشعة الشمس. وكأن الفكر قد فقد نوره والعواطف قد أضاعت عذوبتها فانقلبت النفس من حالة الوحي إلى حالة التقليد أو من الحرية إلى التقيد وهي حالة - أعيذك منها - أشبه بالنوم لا بل أشبه بالموت، لأن سكونها كسكون المادة حركتها كحركة الآلة فلا تتخيل ولا تبدع ولا تحلل ولا تركب بل تقلد أفعال غيرها كما تعيد ذرات الهواء حركات الذرات المجاورة فهي كالمادة خاضعة لقانون الاستمرار لا لقانون الإبداع.
وحالة الإتباع هذه على عكس حالة الإبداع، لأن النفس في الاختراع تكون مسرحاً للذكريات والأفكار، فتجري الصور أمام مرآة الشعور كما تجري مياه النهر، وتسق في تعاقبها كما تتسق النقرات الموسيقية. وتصدر المعاني العلمية والصور الفنية عن عوامل الحياة الكامنة وراء حجاب الشعور كما يفتح الزهر أكمه بعد دبيب الحياة في ألياف الشجر. يكون الإنسان في هذه الحالة حديد البصر واسع الخيال، يكشف في كل صورة من صور الوجود عن لون جديد، ويرى في كل مادة حيلة جديدة، كأن لغته لغة الوحي والإلهام لا لغة القياس والبرهان، لا يحتاج لسوى الحدس في الكشف عن الأمور العلمية، ولا يعرف غير الذوق في إدراك الأمور البديعية، يتوجه إلى فضاء الفكر ويعلة في جو المعقولات ولا