يحزن لتبدل الأشياء واختلافها، فالمرئيات والمسموعات والمشمومات كلها ناطقة بما في نفسه، والطبيعة لا تتحرك إلا بما يتحرك به قلبه.
لقد وصف الفلاسفة هذه الحالة وقالوا إنها حالة تتخمر فيها ميول النفس وراء حجاب الشعور فينجس الاختراع على صورة وحي يسنده المخترع إلى قوة مفارقة له مجردة عن إدارته. فالشاعر يعزو وحيه إلى شياطينه والموسيقار، إلى ألهته، ويظن بأنه يكتب بما يمليه عليه غيره، ويخيل إليه أنه متبع في حين أنه مخترع مبتدع. وهذا مخالف تماماً لحالة الإتباع لأن المقلد قد يظن نفسه مبدعاً للأحوال التي ينقلها عن غيره، كالذي يجرفه السيل فيظن أنه مخير في سيره، وهو مسير لا مخير، تقذفه الأمواج ولا يخطر بباله أن يقف لمحة ف وجهها.
على أن المخترع لا يخلو في إبداعه من إتباع المجاري القديمة التي حفرها قبله طائفة المخترعين لأن الهيئة الاجتماعية تؤثر في صور الإبداع كما يؤثر الإقليم في أشكال النبات والحيوان. وللاختراع البديعي أساس اجتماعي كما للاختراع العلمي. لأن الشاعر والموسيقار والعالم والسياسي كلهم يستفيدون من الآثار التي حفظها الماضي في حوض الجماعة المشترك. وهذا ما يمكننا التعبير عنه بقوانا أن الإتباع ضروري للإبداع ولقد قال هنري بروغسون أن إبداع المادة غير ممكن وإن الإبداع لا يكون إلا في الصورة فيمكنك تخليق الأشياء كل يوم بصورة جديدة. ولكن إبداعك لا يعدو التركيب. فأنت إنما تركب صورة جديدة من عناصر قديمة، ولا تتخيل شيئاً إلا على أساس صور المواد المحفوظة في نفسك. نعم إنك قد تتخيل حصاناً مجنحاً ولا وجود للحصان المجنح في الطبيعة إلا أن الحصان والأجنحة كلها موجودة على إنفراد ولولا وجودها لما استطعت أن تتخيل صورة مؤلفة منها. فالإنسان يبدع الصور الذهنية وقد يبدع المعاني والأفكار ولكن هذا الإبداع لا يخرج عن كونه مبيناً عن التجربة. إننا بأحلامنا نضع المثل العليا في السماء، ولكننا إذا رجعنا إلى الحقيقة عرفنا أن هذه المثل العليا منسوجة بخيوط الواقع. أضف إلى ذلك أن للإبداع، فنياً كان أو علمياً، أنماطاً معينة لا يمكن التوصل إليها إلا إذا أطلع المخترع على القواعد والاصطلاحات القديمة. وهذه الاصطلاحات السابقة لا بد للإنسان من اكتسابها حتى تصبح عادة أو طبيعة له، فإذا تعودت وصارت حاضرة في ذهنه أمكنه بعد ذلك أن يضم