بها شيئاً جديداً إلى حظيرة العلم والفن. فالمخترع لا يتقن إبداعه إلا إذا استفاد من الماضي لأن الإتباع ضروري للإبداع كما أن العادة ضرورية للتفكير والحرية.
انظر إلى الطريق الذي يسلكه العالم أو الشاعر أو الروائي في إبداعهم، إنهم يتصورون بالحدس، كما قال (هنري برغسون)، معنى مجرداً بسيطاً وخيالاً عاماً مبهماً يقلبونه بالتدريج إلى شكل حسي وصورة متشخصة. فهم يدركون النهاية قبل البداية، ثم يعودون إلى المبدأ فيفكرون في الواسطة التي يمكن الانتقال بها شيئاً فشيئاً إلى الغاية. وعند ذلك تصبح الغاية المجردة حقيقة متشخصة. فالكاتب الروائي يتصور قبل كل شيء مسألة من المسائل الاجتماعية أو قضية من القضايا، ثم يجمع الحوادث ويصور الواقعات ويصف الأشخاص وصفاً يستطيع به تحقيق الغاية التي يتطلع إليها. فالواقعات التي تخيلها والحوادث التي جمعها مقتبسة من الحياة الاجتماعية، ولولا وجود هذه العناصر لما حصل التركيب. ولله در ابن سينا حين قال إن واجب الوجود لا يهب الصورة للمادة إلا عند استعداد المادة لها. فالإبداع يقتضي إذن تحليل المحسوسات المتشخصة إلى عناصرها البسيطة ضمن مركبات جديدة ولذلك كان لا بد في الإبداع من بقاء الآثار القديمة ضمن الصور الجديدة. وهذا ما يبعث على انتشار الأختراع وارتياح الناس إليه. والناس لا يرتاحون كما قال (ويليم جيمس) إلا إلى القديم ضمن الحديث، ولذلك يقلقون أمام الصور الجديدة التي لم يوآلفوها ويتألمون من الصور القديمة التي أصبحت بالية لا تتفق مع روح العصر.
والسوريون اليوم قلقون لأنهم مترددون بين الماضي والمستقبل، لا يعرفون أية صورة من صور الحياة يتبعون ولا إلى أي قطب من هذين القطبين يتوجهون، فالماضي يهزهم والحياة الجديدة تستفزهم، إلا أن الماضي المحسوس أثقل على كاهلهم من المستقبل المجرد. وهم أبو أو أرادوا سائرون بحكم الضرورة في تيار المدنية الحديثة.
ولعل إبداع صورة صالحة لحياة السوريين الجديدة لا يتم إلا بتحليل هذا الماضي إلى عناصره المقومة. نعم إن البناء في الأمم التي ليس لها ماض أسهل منه في الأمم القديمة ولكن هذه الأخيرة لا تستطيع التجرد من جميع عناصر حياتها السابقة. فالمهندس الذي يبني مدينة جديدة يخططها كما يريد، ولكن المهندس الذي يصلح مدينة قديمة لا يستطيع