إذاً فلا عجب إن صعب على كل قارئ إدراك بول فالري ومن المستحيل تعريف كل ظاهرة من ظواهر نفسيته باللغة العربية ولذلك لأسباب عديدة أهمها:
أن فالري اكتشف ميداناً جديداً للأدب ما اعتاد عليه النطق البشري فقد درس تطورات النفس في حالة الإبداع ونزاع الوجود والعدم وتوغل في الأنحاء المظلمة من روحه يستنبط منها كنوزاً ظهرت لنا وله غريبة وقد عجز النقاد وعجز الشاعر عن وصفها فأعطى فالري للألفاظ حياة جديدة وإبداع لأفكاره لغة جديدة لا يمكن تعريبها حتى ولا تحويلها إلى اللغة الفرنسية العادية وأرى أن كل ترجمة للمقبرة البحرية أو ملكة آجال البشر الشابة أو نرسيس أو سواها من أشعار فالري نصيبها الفشل. ومن الأسباب التي تجعل البحث عن فالري متعذراً في اللغة العربية هو أن سحر أشعاره ليس فقط في المعاني ولكنه كائن أيضاً في انتخاب العبارات والألفاظ حتى والحروف فقد استطاع أن يرتب الألفاظ في الشعر بصورة موسيقية وموسيقى الأشعار تضيع إن نقلت إلى لغة أخرى وفالري يعتقد بقوة العدد وينظم قصائده كمهندس يبني القصور والهياكل. وهو في فرنسة أول من حدد العلاقات القوية الموجودة بين الشعر والرياضيات فغاية الشعر الجمال والجمال في تناسب الخطوط وتناسب الخطوط يقتضي دقة الرياضيات وروح الشاعر المبدعة. وأن أردنا أن نعرف أهمية هذه النظرية عند فالري فما علينا إلا أن نفتح أحدث كتبه النثرية المشهورة وبالينوس. أو بالينوس المهندس بنى هيكلاً جميلاً للإله هوميس ولما سئل عن غايته من بناء هذا الهيكل أجاب: أردت عندما رفعت هذا الأثر أن أحفظ ذكر يوم مضيء من حياتي. يا لها من استحالة عذبة! لا أحد يعلم أن هذا الهيكل الجميل هو صورة رياضية لفتاة أحببتها وكنت بحبها سعيداً فالهيكل يمثلها لي فالعامي لا يدرك كيف يمثل صورة الفتاة أما الشاعر فله حاسة يستطيع بواسطتها العثور على العلاقات الخفية التي تربط كل صورة تمثل الجمال ببقية صور الجمال.
لا نريد أن نطيل البحث في هذا الموضوع خوفاً من الوقوع في الغموض أو الإبهام وغايتنا من هذه الملاحظات بيان الصعوبات التي تمنع الكاتب العربي من التكلم عن فالري باللغة العربية وسنأتي فيما بعد ببعض ما نستطيع التعبير عنه لشاعر من أشهر شعراء الغرب.