فيستعير ويشبه ويتخيل كما يرى ثم مع رقي الشعب ونمو المدن واحتكاك الأفكار ووقوع الجدل والمماحكة نتيجة التجمع والائتمار والخصومة أمام السلطة يرى المرء أنه بحاجة لاستعمال البرهان لإظهار أفضلية رأيه ودحض خصمه ونيل مأربه فتظهر القواعد المنطقية وتسن القوانين وتكيف وتعدل بحسب مقتضياتها ويتخذ للعلوم مع تقدمها قواعد يبحث فيها بموجبها ويتطور الأدب من طور المجاز والوصف الخيالي والاسترسال وتطبيق قواعد البديع إلى دور الإيجاز والتمسك بالحقائق على قدر الإمكان وهكذا فالشعوب في أدوار حياتها كالفرد في أدوار حياته تنتقل من اللهو إلى الجد ومن الاستعاضة عن الحقيقة بخيالها إلى السعي الحثيث لإدراك الحقائق المطلوبة والتمتع بها. وعليه فأنت ترى كيف أن اليونان شغفوا بالفلسفة النظرية وبأدب النفس وبالبطولة الرياضية وسرد قصص الأبطال والأقدمين والتحدث عن الآلهة بينما الرومان الذين جاءوا بعدهم وابتدأوا حيث انتهى اليونان تمسكوا بأهداب الجد وقاموا بالفتوحات التي أشبعت أطماعهم الاستعمارية ونظموا علم الحقوق من أحكام وأصول خير تنظيم وشكلوا الأنظمة الحكومية التي تكفل حسن سير سياستهم.
وكذلك لو أخذنا شعباً واحداً ورافقنا سير حضارته نجد أنه كالفرد ينتقل من حال التفكير الطليق الساذج إلى التفكير المنطقي المحدد بالقواعد والقيود وينتقل من الاهتمام بظواهر الحياة وملاهيها إلى الاهتمام بحقائقها وإلى الجد فيها ومن يدرس الأدب الفرنسي خلال الستة قرون الماضية، والأدب الانكليزي أو العربي أو أدب أي أمة عاشت لغتها عمراً طويلاً يرى هذا الانقلاب بأجلى وضوح.
فالأمم تسير في سبيل الرقي الفكري ووجهة سيرها من العمل إلى النظر فتنتقل من التجربة إلى التعليل ومن الإسهاب إلى الإيجاز والرصانة والجد في الحياة.