المدارس من القول إنه لما كان في سنهم عام ١٨٨٧ كانت صورة العلم تختلف تماماً عما هي الآن من الاضطراب وعدم الاستقرار هل كان في مقدور أعظم السياسيين في ذلك الوقت أن يتوقع أن أوروبا ستصبح على هذه الحالة وما أظن أنه مهما بلغت القوانين التاريخية من الدقة أن تعطينا صورة ولو قريبة عما سيكن عليه العالم سنة ١٩٣٥.
تحكم العلوم الصحيحة من المستقبل وذلك ضمن قواعد دقيقة وتبعاً لقوانين محدودة أما في التاريخ فليس من الممكن أن نحكم على المستقبل ولذا غدت كل التنبؤات من قبيل التضليل لأن التاريخ ليس بعلم بل هو فن لكل الفنون يجب أن يتبوأ مكانه بين آلهات الشعر والخيال. وما هذا الاعتقاد والإيمان بالتاريخ إلا وليد الفلسفة الوضعية التي ظهرت من القرن التاسع عشر ذلك القرن الذي أسكرته انتصار العلوم التجريبية فقد جرب أن يطبق قواعد هذه العلوم التجريبية على العلوم الزائفة المدعوة بعلمي الاجتماع والنفس فكان نصيبه الفشل التام.
فاليري والفن
قد يكون من الخطأ أن يعتقد أن العالم مركب من اصطلاحات قائمة بين أفراد البشر لأنه لا يوجد حقيقة أقدم من الاصطلاحان التي ابتدعها العقل البشري ولكن كيف للبشر أن يدرك هذه الحقيقة ما دامت غريبة عنه؟
يجيب فاليري كما أجاب بروست من قبل: في مقدورنا إدراك الحقيقة بالفن ويمكن إدراكها بواسطة الشعر - على شرط أن نفهم الشعر بمعناه الواسع فالشعر يسمح للفكر أن يتصل بالحقيقة الأولية التي سبقت الدور الذي اكتسبنا به معارفنا ومعلوماتنا. لأن دور الشاعر يتلخص في إعطاء الكلمات قيمتها الموسيقية وبأن يخلق حول هذه الكلمات السر العجيب الذي كان يحوطها أثناء ظهورها وولادتها.
لا ينظم الشاعر قصيدته بالأفكار ولا بالعواطف وإنما ينظمها بالكلمات.
فقد شبه فاليري الشاعر (بعامل) ذي وجدان حي وفكر منظم فهو (يركب) قصيدته كما يركب العامل في المصنع الآلة من الآلات التي هيئت لعمل من الأعمال - أعني تركيب القصيدة يجب أن يخضع لقواعد معروفة ومحدودة لآن حماسة الجمال التي يسعى وراءها الشعراء والتي جربوا تعريفها لم تكن إلا عاطفة استحالة التحول.