يؤالفوا المدنية الحديثة كيفما اقتضى الأمر وإما أن يصبحوا عبيداً لغيرهم أو يبيدوا في معترك لا رحمة فيه ولا هوادة. هذا ما حمل مدعي الإصلاح في الشرق على هم أكثر الأوضاع التي كانت إلى أيامنا هذه من الدعائم الراسخة في كيان المدنية القديمة فنشأ على ذلك أزمة اجتماعية مخيفة كاد زلزالها يهدم كل شيء. وفي الحق أن هذا الصراع الاجتماعي قد زعزع الشرق كله فلا ترى من شواطئ البوسفور إلى ساحل البحر الأصفر إلا موجاً من الزلازل وسهاماً من الفتن العمياء. ولم يقتصر هذا الاضطراب على الشرق وحده بل مادت به الأرض كلها، حتى قيل أننا بلغنا من التاريخ دور الانحطاط والخراب، وأطن أننا لم نهو إلى ذلك الدرك إلا لفقدان التوازن العالمي، وذلك كان الإصلاح الذي نوهنا به ضرورة لا محيد عنها أبداً.
درست باهتمام شديد بعض صور الإصلاح الأساسية التي حصلت أو شرع بها طائفة المصلحين في بعض ممالك الشرق الأدنى. فلم أتردد في الحكم بأن أكثر هذه الصورة الموهومة للإصلاح أقرب إلى الهدم منها إلى البناء. أنا لا شك في سلامة نية هؤلاء المصلحين ولا في أقدامهم ووطنيتهم، ولكنني أتهم جرأتهم وإفراطهم المضر. لأن هذه الجرأة المفعمة بالطيش تحملهم على إتباع أساليب الثورة التي أستقبحها وأكرهها.
وإنني لعلى يقين أن كل طفرة في الإصلاح تدل على جهل بحاجات الحياة وسخر بالطبيعة البشرية. ولا يجوز أن تضحى هذه السنن الطبيعية مهما كان السبب. وقد يكون للمصلحين فائدة عظيمة في استنباط مهديات الفكر من دروس فلسفة التاريخ، وهي لا تبخل بذلك على الذين لا يأنفون من استشارتها. أما أنا فأريد أن أسترعي انتباه قرائي إلى مسألة واحدة أبين لهم فيها كيف أن الالتباس في كلمتي مدنية وثقافة قد يضل المصلح الجريء ذا الرواية والعزم فيقود غيره إل الخسران الذي لا يمكن تلافيه. يريد المصلحون أن يأخذوا بالمنية الغربية للأسباب التي شرحتها وربما كنت أنا نفسي أكثر حماسة من جميع الراغبين في هذا الإصلاح.
نعم ولكن ما هي المدنية؟
المدنية هي حالة اجتماعية تهيئ للإنسان جميع الوسائل والشروط الضرورية التي يستطيع بها أن يحقق الرفاه في الحياة على قدر طاقة البشر. وذلك بارتقاء الصناعة ونموها المتصل