وتحسين الأوضاع الاجتماعية شيئاً فشيئاً. وهكذا فإن شكل الحكم الموافق لشروط الحياة الاجتماعية في أمة من الأمم أفضل من غيره من الأشكال لأنه يضمن حقوق الأفراد فيها. والمساكن الحديثة أرقى من الأكواخ الأولية الحقيرة لأنها أقرب إلى شروط الصحة ولوازم الرفاه. وكذلك الجسر الذي أنشئ فوق النهر أحسن من جذع الشجرة الملقى فوق الجدول.
فالمدنية إذن تابعة للوسائل المادية التي استطاع الإنسان في أدوار حياته المتابعة أن ينتزعها من المحيط ويسخرها لمقاصده العملية. وأعني بذلك الوصول إلى درجة علية من الرفاه والراحة. هذا حال المدنية في ماضيها ومستقبلها.
وأحسن مثال على ذلك العصر الحجري وعصر النحاس وعصر الحديد وعصر البخار والكهرباء، فإنها أدوار تاريخية مختلفة تدل على أن الحضارة لا تغير إلا الوسائط أما الغاية التي ترمي إليها فلن تتغير أبداً. ومدنية العصر الحاضر لا تشذ عن هذه القاعدة لأنها صورة جديدة متولدة من تطبيق الاكتشافات العليمة على الصناعة، وغايتها لا تختلف عن غيرها. لأن الضارة إنما ترمي دائماً لإيجاد الرفاه وحفظه.
أما الثقافة فهي على عكس ذلك لأنها ثمرة من ثمار التربية الاجتماعية التي توارثتها الأجيال وما برحت تنتقل من دور إلى آخر حتى انتهت إلى طور من الأخلاق والتفكير والأدب لا عهد للإنسان به من قبل. لولا الثقافة لما تكاملت معرفة الإنسان بما يجب عليه نحو الإنسانية، لولا الثقافة لما أدرك الإنسان غاية اتساق الطبيعة البشرية في نظام الكون ولولاها لما رق ذوقه ولا لطف ولا اتسع خياله المبدع. والإبداع هو المنبع الفياض الذي تنبجس منه صور الفن وتتغذى بوحيه الطبيعي اكتشافات العلم العجيبة. فالثقافة هي إذن بهذا المعنى صورة شخصية وطابع جنسي، لا بل هي قوة حيوية تصان بها عبقرية الشعب ووحدته.
فللعرب مثلاً مزايا روحية نشئت عن ثقافتهم. وكما تجعل المزايا الجنسية ملامح العربي مختلفة عن صور الآخرين فكذلك يولد المزاج الجنسي والاستعداد الطبيعي صورة شخصية من الثقافة مختلفة عن غيرها.
ولولا صفات العربي الجنسية وثقافته وأخلاقه التالدة ولغته المهذبة وجمال أدبه وروعة تاريخه المجيد لما استطاع أ، يحافظ على شخصيته الجنسية بالرغم من تقلبات الزمان