وطوارئ الحدثان. بل مما هو جدير بالإعجاب أن العربي استطاع أن يتغلب بثقافته ودينه على جميع الأمم الحربية التي غلبته بالسيف والقوة الغاشمة. وشبيه بذلك أيضاً حال اليونان والفرس. فالرومان غلبوا اليونان الضعفاء بقوتهم المادية. ولكن اليونان انتصروا على رومة بثقافتهم. لقد انتصرت تلك الأمة الضعيفة أمة النبوغ والعبقرية على رومة القوية دولة الفتح والسلطان لأن ثقافتها كانت عالية وهي منبع الثقافة الأوروبية في عصرنا هذا. وكذلك الفرس فقد غلبوا بثقافتهم جميع الأمم التي غلبتهم واكتسحت بلادهم.
ولو لم يكن من الثقافة إلا اتصال عبقرية الشعب الحي بروحها الخالدة لكفى بذلك دليلاً على خطورتها.
ولذلك كانت الحركة من شرائط المدنية لأنها لا يمكن أن تقف وتجمد، ولو جمدت لأشرفت على الهلاك كمدنية الصين الراكدة، فلا حياة للمدنية إلا بالحركة الدائمة ولا بقاء لها إلا بالتقدم المطرد ضمن نطاق الأسباب الاقتصادية، فإذا كان ضوء الكهرباء أجمل وألطف وأرخص وأنسب فمن الخطل إضاءة المنازل بنور الزيت أو بنور (البترول). ولذلك أيضاً كان لا بد من الأخذ بالوسائل النقلية والتنظيمات التجارية والإدارية وغيرها من مظاهر المدنية المختلفة.
فعلى المصلحين إذن أن لا يترددوا في تفضيل مظاهر المدنية الحديثة على مظاهر المدنية القديمة. لأنه لا بد لهذه المظاهر من تغيير عاداتنا القديمة بالتدريج وتبديل أخلاقنا شيئاً فشيئاً. أما القضاء على الأوضاع الاجتماعية وهدم اللغة القومية وتبديل الثقافة والعقائد الدينية والخلقية واستبدال غيرا بها في سبيل التجدد فليس ذلك كله إلا ضرباً من ضروب التهور والتي الباطل. لأن لهذه الأوضاع الاجتماعية صلة بروح الشعب وحياته التاريخية، فليس بالإمكان تغييرها دفعة واحدة وتجريد الشعب منها كما يجرد البدن من القميص القذر.
أنا لا أدعي أن في وسع أمة من الأمم أن تسلم من التأثر بثقافة أعلى من ثقافتها. وقد قلت أن ثقافة أوروبا المتمدنة هي يونانية محضة. ولكن أوروبا لم تتصف بهذه الثقافة اليونانية إلى بعد أن انقضى على عهد نهضتها عصور عديدة. فلس بوسع أمة أن تأخذ بثقافة أعلى من ثقافتها إلا بالتدريج لأن التأثر بتلك الثقافة مع جني غرسها والاتصاف بها كل ذلك يحتاج إلى زمان. غير أن طريقة الثورة تسخر بهذه الشروط الذاتية والأسباب الطبيعية