للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن الحكم في ذلك أيضًا تمييز قوي الإيمان من ضعيفه، كما قال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} [البقرة: ١٤٣] .

رابعًا: الامتحان بكمال الانقياد، والابتلاءُ بالمبادرة إلى الامتثال، وذلك فيما إذا أمر الله عبده بأمر فامتثله ثم أمره بنقيض ذلك الأمر فامتثله أيضًا، فيكون هذا دليلاً على كمال الانقياد والاستسلام.

وتتضح هذه الحكمة في نسخ الأمر قبل التمكن من فعله (١) ، وذلك مثل أمر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يذبح ابنه ثم نسخ الله عنه هذا الحكم بفدائه بذبح عظيم قبل أن يتمكن من الفعل، والحكمة من ذلك الابتلاء، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: ١٠٦] .

فابتلى الله نبيه في محبته له سبحانه وتقديمها على محبته لابنه حتى تتم خلته، فكان المقصود الابتلاء لا نفس الفعل؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بفعل لا مصلحة ولا منفعة ولا حكمة فيه (٢) ، بل أوامره سبحانه ونواهيه وجميع شرائعه مبنية على حكم ومصالح ومنافع كما سبق بيان ذلك (٣) .

فالحكمة هنا ناشئة من نفس الأمر، والمصلحة حاصلة به، أما الفعل فلا مصلحة فيه ألبتة، لذلك كان المقصود من الأمر الحكمة منه وهي الابتلاء دون الفعل (٤) .


(١) مذهب أهل السنة في مسألة نسخ الأمر قبل التمكن من الفعل الجواز والوقوع، ووافقهم الأشاعرة، أما المعتزلة فمنعوا ذلك. انظر: "مجموع الفتاوى" (١٤/١٤٥، ١٧/٢٠٣) ، و"أضواء البيان" (٣/٣٦٨) ، و"مذكرة الشنقيطي" (٧٣) .
(٢) انظر: "مجموع الفتاوى" (١٤/١٤٤ - ١٤٧، ١٧/٢٠١ - ٢٠٣، ١٩/٢٩٧) ، و"مذكرة الشنقيطي" (٧٣، ٧٤) .
(٣) انظر (ص١٩٨- ٢٠١) من هذا الكتاب.
(٤) مذهب أهل السنة في هذه المسألة مبني على إثبات الحكمة في أفعال الله سبحانه وتعالى وأحكامه بأنواعها الثلاثة:
أ- الحكمة الموجودة في نفس الفعل؛ كما في الصدق والعدل.
ب- الحكمة المكتسبة للفعل من الأمر؛ كحسن الصلاة وقبح الخمر.
جـ- الحكمة الناشئة من نفس الأمر، وذلك كأمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ابنه، إذ المقصود ابتلاؤه: هل يطيع أو يعصي؟
وهذا النوع من الحكمة والذي قبله أيضًا خفي على المعتزلة فلم يثبتوهما، بل لم يعرفوا إلا النوع الأول وهو الحكمة الثابتة للفعل فالشرع عندهم كاشف عن حسن الفعل أو قبحه، وهذا بناءً على قولهم بأن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان للأفعال، وأن العقل يدرك ذلك، والشرع كاشف لذلك، ومن هنا أنكر المعتزلة نسخ الأمر قبل التمكن من الفعل بناءً على إنكار الحكمة الناشئة من نفس الأمر.
أما نفاة الحكمة - وهم الأشاعرة والجهمية - فقد أنكروا النوع الأول والثالث، فهم ينكرون أن تكون في الفعل حكمة أصلاً لا في نفسه ولا في نفس الأمر به.
وهذا مبني على نفي الحكمة والقول بأن العقل لا يدرك الحسن والقبح لذلك أثبتوا النوع الثاني وهو الحكمة المكتسبة للفعل لتعلق الخطاب به، فقالوا لأجل ذلك بجواز النسخ قبل التمكن من الامتثال؛ إذ الأفعال عندهم سواء بناءً على أنه سبحانه لا يأمر لحكمة.
فانظر إلى الفرق بين مأخذ أهل السنة ومأخذ الأشاعرة فإن بينهما ما بين المشرقين.
انظر: "روضة الناظر" (١/٢٠٤) ، و"مجموع الفتاوى" (١٤/١٤٤ - ١٤٧، ١٧/٢٠١، ٢٠٣، ١٩/٢٩٧) ، وانظر "مسألة التحسن والتقبيح العقليين" فيما يأتي من هذا الكتاب. وانظر: "مسألة الحكمة والتعليل" في (ص١٩٦- ٢٠١) من هذا الكتاب.

<<  <   >  >>