الواجب على المجتهدين العمل بالعلم، لكن هذا العلم إما ألا يحتمل النقيض، وهذا فيما إذا كان الدليل المتبع دليلاً قاطعًا، فهذا عمل باعتقاد الرجحان، لا برجحان الاعتقاد، وهو اعتقاد رجحان هذا على هذا. وإما أن يحتمل النقيض، وهو أن يكون الدليل المتبع خلاف الثابت في نفس الأمر، وهذا فيما إذا كان الدليل المتبع ظنيًا، لكن عمل به لكونه استند إلى دليل أفاد ترجيحه.
والمقصود أن الذي جاءت به الشريعة وعليه عقلاء الناس وما يوجد في جميع العلوم والصناعات، كالطب والتجارة، العمل بالعلم، فلا يعملون إلا بالعلم بأن هذا أرجح من هذا، فيعتقدون الرجحان اعتقادًا عمليًا، لكن لا يلزم إذ كان أرجح ألا يكون المرجوح هو الثابت في نفس الأمر.
وذلك مثل الحكم بالبينة، فإذا أتى أحد الخصمين بحجة ولم يأت الآخر بشيء، كان الحاكم عالمًا بأن حجة هذا أرجح، فما حكم إلا بعلم، مع أن الآخر قد تكون له حجة لا يعلمها أو لا يحسن أن يبينها، فيكون مضيعًا لحقه حيث لم يبين حجته، والحاكم لم يحكم إلا بعلم وعدل.
وهكذا أدلة الأحكام فإذا تعارض خبران قدم الأقوى منهما، وإن جاز أن يكون في نفس الأمر الخبر المرجوح هو الحق، لكونه هو الأقوى في الحقيقة إلا أن المجتهد لم يعلم بذلك، فالمجتهد إنما عمل بعلم، وهو علمه برجحان هذا على هذا، فهو إذن ليس ممن لا يتبع إلا الظن.
وليس للمجتهد أن يترك ما يعلمه إلى ما لا يعلمه لإمكان ثبوته في نفس