للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"..... والشريعة طافحة بأن الأفعال المأمور بها مشروطة بالاستطاعة والقدرة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن الحصين (١) : «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» (٢) ، وقد اتفق المسلمون على أن المصلي إذا عجز عن بعض واجباتها؛ كالقيام أو القراءة أو الركوع أو السجود أو ستر العورة أو استقبال القبلة أو غير ذلك سقط عنه ما عجز عنه، وإنما يجب عليه ما إذا أراد فعله إرادة جازمة أمكنه فعله. وكذلك الصيام اتفقوا على أنه يسقط بالعجز عن مثل الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، الذين يعجزون عن أداء وقضاء، وإنما تنازعوا هل على مثل ذلك الفدية بالإطعام؟ .....وكذلك الحج فإنهم أجمعوا على أنه لا يجب على العاجز عنه، وقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: ٩٧] . بل مما ينبغي أن يعرف أن الاستطاعة الشرعية المشروطة في الأمر والنهي لم يكتفِ الشارع فيها بمجرد المُكنة ولو مع الضرر، بل متى كان العبد قادرًا على الفعل مع ضرر يلحقه جُعل كالعاجز في مواضع كثيرة من الشريعة: كالتطهر بالماء، والصيام في المرض، والقيام في الصلاة، وغير ذلك تحقيقًا لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] ... فمن قال: إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه إذا أرادوه إرادة جازمة فقد كذب على الله ورسوله، وهو من المفترين الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: ١٥٢] (٣) .

وقال أيضًا: "واتفقوا على أن العبادات لا تجب إلا على مستطيع، وأن المستطيع يكون مستطيعًا مع معصيته وعدم فعله، كمن استطاع ما أمر به من الصلاة والزكاة والصيام والحج ولم يفعله، فإنه مستطيع باتفاق سلف الأمة وأئمتها وهو مستحق للعقاب على ترك المأمور الذي استطاعه ولم يفعله لا


(١) هو: عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي، صحابي أسلم عام خيبر، نزل البصرة وكان قاضيًا بها، وتوفي بها سنة (٥٢هـ) . انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" (٢/٣٥) ، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (٣/٢٧) .
(٢) رواه البخاري (٢/٥٨٧) برقم (١١١٧) .
(٣) "مجموع الفتاوى" (٨/٤٣٨، ١٣٩، ٤٤٠) .

<<  <   >  >>