للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وقد جعل الله الكتابة من أظهر صنائع البشر وأعلاها، ومن أكثر منافع الأمم وأسناها، وهي حرز لا يضيع ما استودع فيه، وكنز لا يتغير لديه ما يوعيه، وحافظ لا يخاف عليه النسيان من كل باب، وناطق لما حرفه اللسان على وجه الصواب، ولذا قال سيد الأحباب، مخاطبًا للأصحاب: (قيدوا العلم بالكتاب) (١).

وكانت الكتابةُ رخصةً، وانقلبت في هذا الزمان عزيمةً؛ صيانةً للعلم عن الخطإ في الروايةِ، المبنيِّ عليها صحةُ الدراية، ثم هي السبب إلى تخليد كل فضيلة، والباعث على تجديد كل حكمة جليلة، فإنها الموصلة إلى الأمم الآتية، بأخبار القرون الخالية، وآثار الدهور الماضية، حتى كأن الخلف يشاهد السلف، وكأن الآخر يشاهد الأول الماهر، بنظر الباطن والظاهر، فإنك متى أردت مجالسة إمام من الأئمة، ومشافهة كلام أحد من مشايخ الأمة، فطالع في كتبه التي صنفها، ورسائله التي ألفها، فإنك تجده لك مخاطِبًا ومعلِّمًا، ومرشِدًا ومفهِّمًا، فهو حيٌّ من هذه الحيثيةِ، وموجود بهذه الكيفيةِ، ولذا قال قائلٌ منبهًا لأهل زمانه، على إغفال خصال الكريم وإهمال شأنه، شعر:

إني سألت عن الكرام فقيل لي … إن الكرامَ رهائنُ الأرماسِ

ذهب الكرامُ وَجُودُهمْ ونوالُهمْ … وحديثُهمْ إلا من القِرْطاسِ (٢)


(١) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (ت: عوامة) (١٣/ ٤٦١) برقم: (٢٦٩٥٥) موقوفًا على عمر وبرقم: (٢٦٩٥٦) موقوفًا على ابن عباس -رضي الله عنهما-، وأخرجه الدارمي موقوفًا على أنس باب: من رخص في كتابة العلم (٤٩٧). وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (١/ ٣٠٦) رقم (٣٩٥)، ورواه أبو خيثمة زهير بن حرب النسائي في كتاب العلم بتحقيق الألباني (صـ ١٣٧ - ١٣٨) من قول أنس لبنيه (يا بَنِيَّ قيدوا العلم بالكتاب) ومن قول ابن عباس، وقال الألباني معلقًا عليه: (وقد روي هذا الحديث مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يصح)؛ مع أنه صححه في صحيح الجامع برقم ٤٤٣٤، وصححه أيضًا في السلسلة الصحيحة (٥/ ٤٠ - ٤٤) برقم ٢٠٢٦) والله أعلم.
(٢) لم أهتد إلى قائل هذه الأبيات، وقد ذكرها السخاوي في الوسيلة صـ ٥.

<<  <   >  >>