صحيح انه توفى، رحمه الله، ولم أكن قد تجاوزت مرحلة التعليم المتوسط. لكني استطعت ان اختزن ذكريات تلقى بعض الضوء على شخصيته، سواء بحكم معاشرتي له، أو بحكم الأوراق والرسائل الخاصة التي اطلعت عليها بعد وفاته، والتي كان يحتفظ بها في مكتب له كانت تتصدره صور جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد نصيف.
وقد أتيح لي، خلال السنوات القليلة التي عشتها جنبه بعد أن أصبحت واعيا بأهمية بعض الاحداث، ان أختزن في الذاكرة بعض تصرفاته ومواقفه وتعليقاته.
وعلى الرغم من الصورة المهيبة التي كانت تفرض نفسها على من يقترب منه، وعلى الصرامة التي اشتهر بها، فقد كان يتوفر على جانب يطفح بالمحبة والمرح والفكاهة.
وقد كان مشهد تحلقنا حوله، أمي، اخوتي وأنا، في ليالي الشتاء قرب مدفأة يشتعل فيها الحطب، بغرفة نومه، من بين المشاهد التي رسخت في الذاكرة، مثلها في ذلك مثل حلقات تدريسه لنا في "مدرسة حياة الشباب" أو املاآته الأدبية علي، عندما كان يتولى تدريسي في البيت بعد وقوع حادث معين، لا باس من ان اسوقه في هذا المجال لأنه يكشف عن جانب من شخصيته.
كان بعد ان اشتد عليه مرض السكر، قد توقف عن القاء الدروس على تلاميذ المدرسة، وان كان قد استمر في اعطاء الدروس المسجدية ليلا، وفي إلقاء محاضرات عصرا في النادي حتى يشمل بدعوته الشباب الذي لم يكن يتردد على المسجد.
وقد خطر لي ذات يوم، وقد شعرت ان مستوى التعليم في المدرسة لم يعد يلبي حاجتي، ان اطلب منه ان يعطيني دروسا في اللغة والأدب والنحو. فكان جوابه:
- لا استطيع ان اخصك بدروس دون رفاقك.
قلت له: فليكن. لماذا لا تعطي دروسا لكل الذين بلغوا المستوى الذي بلغته.