للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهي خيراتٌ كاملةٌ دائمةٌ، وهذه خيالاتٌ ناقصةٌ منقطعةٌ مضمحلَّةٌ.

فإذا تَمَّ له هذانِ النظرانِ آثرَ ما يَقتضِي العقلُ إيثارَهُ، وزَهِدَ فيما يقتضي الزُّهدَ فيه.

فكلُّ أحدٍ مطبوعٌ على أن لا يتركَ النفعَ العاجلَ واللَّذَّةَ الحاضرةَ إلى النفع الآجل واللَّذَّة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبيَّنَ له فَضْلُ الآجلِ على العاجلِ وقوِيَتْ رغبتُهُ في الأعلى الأفضل. فإذا آثرَ الفانيَ الناقصَ كان ذلك إما لعدم تبيُّنِ الفضل له، وإما لعدم رغبتهِ في الأفضل؛ وكلُّ واحدٍ من الأمرين يدُلُّ على ضعفِ الإيمان وضعف العقل والبصيرة. فإنَّ الراغبَ في الدُّنيا الحريصَ عليها المُؤثِرَ لها: إمَّا أن يُصدِّقَ بأن ما هناك أشرفُ وأفضلُ وأبقى، وإمَّا أن لا يُصدِّقَ. فإن لم يُصدِّق بذلك كان عادمًا للإيمان رأسًا، وإن صدَّق بذلك ولم يُؤثِره كان فاسدَ العقل سييّء الاختيارِ لنفسه.

وهذا تقسيمٌ حاصرٌ ضروريٌّ لا ينفكُّ العبدُ من أحد القسمين منه؛ فإيثارُ الدُّنيا على الآخرة: إما من فسادٍ في الإيمان، وإما من فسادٍ في العقل، وما أكثرَ ما يكون منهما.

ولهذا نبذَها رسولُ الله وراءَ ظَهْرِه هو وأصحابُه، وصَرَفُوا عنها قلوبَهم، واطَّرحُوها ولم يَألَفوها، وهَجَروها ولم يَميلوا إليها، وعَدُّوها سِجْنًا لا جنة (١)، فزَهِدوا فيها حقيقةَ الزُّهد، ولو أرادوها لنالوا منها كلَّ محبوبٍ، ولوَصَلوا منها إلى كلِّ مرغوبٍ؛ فقد عُرِضتْ عليه


(١) إشارة إلى حديث "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"، أخرجه مسلم (٢٩٥٦) عن أبي هريرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>