قلتُ: الجهادُ من أعظم ما يُحيِيْهم به في الدُّنيا وفي البرزخ وفي الآخرة: أما في الدُّنيا فإنَّ قوتَهم وقهرَهم لعدوِّهم بالجهاد. وأمَّا في البرزخ فقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)﴾ [آل عمران: ١٦٩]. وأمَّا في الآخرة فإن حظَّ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظمُ من حظِّ غيرهم.
ولهذا قال ابنُ قُتَيبة (١): ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾؛ يعني الشهادة.
وقال بعضُ المفسِّرين: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾؛ يعني الجنةَ؛ فإنَّها دارُ الحيوان، وفيها الحياةُ الدائمةُ الطيبةُ. حكاه أبو عليٍّ الجرجانيُّ.
والآيةُ تتناولُ هذا كلَّه؛ فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد تُحيِي القلوب الحياة الطَّيِّبة، وكمالُ الحياة في الجنة، والرسولُ داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنَّة؛ فهو داعٍ إلى الحياة في الدُّنيا والآخرة.
والإنسانُ مضطرٌّ إلى نوعين من الحياة:
حياةُ بدنه التي بها يدرِك النافعَ والضارَّ ويُؤثِرُ ما ينفعُهُ على ما يضُرُّهُ، ومتى نقصَتْ فيه هذه الحياةُ ناله من الألم والضعف بحسب ذلك، ولذلك كانت حياةُ المريض والمحزون وصاحبِ الهمِّ والغمِّ والخوفِ والفقر والذُّلِّ دون حياةِ من هو مُعافىً من ذلك.
وحياةُ قلبه وروحه التي بها يُميِّزُ بين الحقِّ والباطل والغَيِّ والرَّشاد والهدى والضلال، فيختارُ الحقَّ على ضدِّه، فتُفِيدُ هذه الحياةُ قوَّةَ التمييز بين النافع والضَّارِّ في العلوم والإرادات والأعمال، وتُفيدُهُ قوَّةَ الإيمان
(١) في تأويل مشكل القرآن (ص ١٥١): أي إلى الجهاد الذي يُحيي دينكم ويُعليكم.