للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفيه أيضًا: أنِّي لا أتصرَّف فيما خوَّلْتَني من مالي ونفسي إلا بأمرك؛ كما لا يتصرَّفُ العبدُ إلا بإذنِ سيِّدِهِ، وأنِّي لا أملكُ لنفسي ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا.

فإن صحَّ له شهودُ ذلك؛ فقد قال: إنِّي عبدُك حقيقةً.

• ثم قال: "ناصيتي بيدِكَ"؛ أي: أنت المتصرِّفُ فيَّ، تُصرِّفُني كيف تشاءُ، لستُ أنا المتصرِّف في نفسي.

وكيف يكونُ له في نفسه تصرُّفٌ [وهو] منْ نفسُهُ بيدِ ربِّه وسيِّدِهِ، وناصيتُهُ بيدِهِ، وقلبُهُ بين إصبعين من أصابعِهِ (١)، وموتُهُ وحياتُهُ وسعادتُهُ وشقاوتُهُ وعافيتُهُ وبلاؤهُ كلُّه إليه سبحانه، ليس إلى العبد منه شيءٌ، بل هو في قبضةِ سيِّدِهِ أضعفُ من مملوكٍ ضعيفٍ حقيرٍ ناصيتُهُ بيدِ سلطانٍ قاهرٍ مالكٍ له تحت تصرُّفِهِ وقهرِهِ، بل الأمرُ فوق ذلك؟!

ومتى شهِدَ العبدُ أنَّ ناصيتَهُ ونواصيَ العبادِ كلَّها بيدِ الله وحدَه يُصرِّفُهم كيف يشاءُ؛ لم يَخَفْهُم بعد ذلك، ولم يَرْجُهُم، ولم يُنْزِلْهُمْ منزلة المالكين، بل منزلةَ عَبِيدٍ مقهورين مربوبينَ، المتصرِّفُ فيهم سواهُم، والمدبِّرُ لهم غيرُهم.

فمن شَهِدَ نفسَهُ بهذا المشهدِ؛ صارَ فَقْرُهُ وضرورتُهُ إلى ربِّه وصفًا لازمًا له، ومتى شهدَ الناسَ كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يُعلِّقَ أملَه ورجاءَه بهم، فاستقامَ توحيدُه وتوكُّلُه وعبوديتُهُ.

ولهذا قال هودٌ لقومِهِ: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)[هود: ٥٦].


(١) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (٢٦٥٤) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

<<  <  ج: ص:  >  >>