للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصل

لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرفَ نفسه، ووقف بها عند قدرها، ولم يَتجاوزهُ إلى ما ليس له، ولم يَتَعدَّ طورَه، ولم يقل: هذا لي، وتيقَّن أنه لله ومن الله وبالله؛ فهو المانُّ به ابتداءً وإدامةً بلا سبب من العبد ولا استحقاقٍ منه، فتُذِلُّه نِعمُ الله عليه، وتَكْسِره كسرةَ من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرًا البتة، وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه، فتُحدِثُ له النعمُ ذلًّا وانكسارًا عجيبًا لا يُعبَّرُ عنه؛ فكلما جدَّد لهُ نعمةً ازداد له ذُلًّا وانكسارًا وخشوعًا ومحبّةً وخوفًا ورجاءً.

وهذا نتيجةُ علمين شريفين:

علمه بربه وكماله وبِرِّه وغناه وجُودِه وإحسانه ورحمته، وأن الخير كله في يديه، وهو ملكه؛ يُؤتي منه من يشاءُ ويمنع منه من يشاءُ، وله الحمدُ على هذا. وهذا أكملُ حمدٍ وأتمُّهُ.

وعلمُه بنفسه، ووقوفه على حدِّها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها، وأنها لا خير فيها البتة، ولا لها ولا بها ولا منها، وأنها ليس لها من ذاتها إلّا العدم؛ فكذلك من صفاتها وكمالها ليس لها إلَّا العدم الذي لا شيء أحقرُ منه ولا أنقص؛ فما فيها من الخير تابعٌ لوجودها الذي ليس إليها ولا بها.

فإذا صار هذان العلمان صبغةً لها لا صبغةً على لسانها؛ علمتْ حينئذٍ أن الحمد كلَّه لله، والأمر كلَّه له، والخير كلَّه في يديه، وأنه هو المستحقُّ للحمد والثناء والمدح دونها، وأنها هي أولى بالذمِّ والعيب واللوم. ومن فاته التحقُّقُ بهذين العلمين تلوَّنتْ به أقواله وأعماله وأحواله، وتَخبَّطتْ عليه، ولم يهتد إلى الصراط المستقيم الموصل له

<<  <  ج: ص:  >  >>