الأمر الوجوديُّ مطلوبٌ مأمورٌ به، فعادتْ حقيقةُ النهي إلى الأمر، وأنَّ المطلوب به ما في ضمن النهي من الأمر الوجوديِّ المطلوب به.
وهذا يتَّضحُ بالوجه الثاني عشر: وهو أنَّ الناس اختلفوا في المطلوب بالنهي على أقوال:
أحدُها: أن المطلوب به كفُّ النفس عن الفعل وحبسُها عنه. وهو أمرٌ وجوديٌّ. قالوا: لأن التكليف إنما يتعلقُ بالمقدور، والعدمُ المحضُ غيرُ مقدورٍ. وهذا قولُ الجمهور.
وقال أبو هاشم وغيرُهُ: بل المطلوب عدمُ الفعل، ولهذا يحصل المقصود من بقائه على العدم، وإن لم يَخطُرْ بباله الفعلُ، فضلًا أن يقصد الكفَّ عنه، ولو كان المطلوبُ الكفَّ؛ لكان عاصيًا إذا لم يأتِ به، ولأنَّ الناس يمدحون بعدم فعل القبيح من لم يَخْطُر بباله فعلُه والكفُّ عنه. وهذا أحدُ قولي القاضي أبي بكر، ولأجله التزم أنَّ عدم الفعل مقدورٌ للعبد وداخلٌ تحت الكسب؛ قال: والمقصود بالنهي الإبقاء على العدم الأصلي وهو مقدورٌ.
وقالتْ طائفةٌ: المطلوب بالنهي فعلُ الضدِّ؛ فإنه هو المقدور وهو المقصودُ للناهي؛ فإنَّه إنما نهاه عن الفاحشة طلبًا للعفة وهي المأمور بها، ونهاه عن الظلم طلبًا للعدل المأمور به، وعن الكذب طلبًا للصدق المأمور به، وهكذا جميع المنهيات. فعند هؤلاء أن حقيقة النهي الطلبُ لضد المنهي عنه، فعاد الأمر إلى أن الطلب إنما تعلق بفعل المأمور.