وأنت تجد في الشاهد: الملِك من البشر إذا كان في بعض حاشيته وخَدَمِه من هو مُتمنٍّ لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلئٌ منها، وهو مع ذلك في خدمته وقضاء أشغاله؛ فإذا اطلع على سرِّه وقصدِه مَقَتَه غايةَ المقت، وأبغضَه، وقابله بما يستحقه، وكان أبغضَ إليه من رجل بعيد عنه جَنَى بعضَ الجنايات وقلبُه وسِرُّه مع الملك غير منطوٍ على تمني الخيانة ومحبتها والحرص عليها؛ فالأول يتركها عجزًا واشتغالًا بما هو فيه وقلبه ممتلئٌ بها، والثاني يفعلها وقلبه كارهٌ لها ليس فيه إضمارُ الخيانة ولا الإصرار عليها؛ فهذا أحسنُ حالًا وأسلمُ عاقبةً من الأول.
وبالجملة فالقلب لا يخلو قطُّ من الفكر: إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدَّرات المفروضة.
وقد تقدَّم أن النفس مَثلُها كمثل الرَّحَى تدور بما يُلقى فيها؛ فإن ألقيتَ فيها حبًّا دارتْ به، وإن ألقيتَ فيها زجاجًا وحصىً وبعرًا دارت به، والله سبحانه هو قيِّم تلك الرحى ومالكها ومُصرِّفُها، وقد أقام لها ملَكًا يُلقِي فيها ما ينفعها فتدور به، وشيطانًا يلقي فيها ما يضرُّها فتدور به؛ فالملك يلمُّ بها مرةً والشيطان يلمُّ بها مرة؛ فالحَبّ الذي يُلقيه الملك إيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالوعد، والحَبّ الذي يُلقيه الشيطان إيعادٌ بالشر وتكذيبٌ بالوعد، والطحين على قدر الحب، وصاحب الحبّ المُضِرّ لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغةً من الحب النافع، وقيِّمها قد أهملها وأعرض عنها؛ فحينئذ يُبادِر إلى إلقاء ما معه فيها.
وبالجملة فقَيِّمُ الرَّحى إذا تخلَّى عنها وعن إصلاحها وإلقاء الحَبّ النافع فيها وجدَ العدوُّ السبيلَ إلى إفسادها وإدارتها بما معه.