وصارتِ الدُّنيا وراءَ ظهرهِ، فكانت تلك الشهادة الخالصةُ خاتمةَ عملِهِ، فطهَّرَتْهُ من ذنوبه، وأدخلتْهُ على ربِّه؛ لأنَّه لَقِيَ رَبَّهُ بشهادةٍ صادقةٍ خالصةٍ، وافقَ ظاهرُها باطِنَها وسِرُّها علانيتَها.
فلو حصلتْ له الشهادةُ على هذا الوجه في أيام الصحَّة لاستوحشَ من الدُّنيا وأهلِها، وفرَّ إلى الله من الناس، وأنِسَ به دون ما سواه، لكنَّه شهِدَ بها بقلبٍ مشحونٍ بالشهوات وحُبِّ الحياةِ وأسبابها، ونفسٍ مملوءةٍ بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله؛ فلو تجرَّدت كتجرُّدها عند الموت لكان لها نبأٌ آخرُ وعيشٌ آخرُ سوى عيشِها البهيميِّ.
والله المستعانُ.
ماذا يملِكُ مِنْ أمرهِ مَن ناصِيَتُه بيد الله، ونفسُهُ بيدِهِ، وقلبُهُ بين إصبعين من أصابعِهِ يقلِّبُهُ كيف يشاء (١)، وحياتُهُ بيدِهِ، وموتُهُ بيدِهِ، وسعادتُهُ بيدِهِ، وَشقاوتُهُ بيدِهِ، وحركاتُهُ وسكناتُهُ وأقوالُهُ وأفعالُهُ بإذنِهِ ومشيئتِهِ؛ فلا يتحرَّكُ إلا بإذنِهِ، ولا يفعلُ إلَّا بمشيئتِهِ. إنْ وَكَلَهُ إلى نفسه وكَلَه إلى عجزٍ وضيعةٍ وتفريطٍ وذنب وخطيئةٍ، وإن وكَلَه إلى غيره وكلَهُ إلى منْ لا يملك له ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، وإن تخلَّى عنه استولى عليه عدوُّهُ، وجعلَهُ أسيرًا له. فهو لا غِنى له عنه طَرْفَةَ عينٍ، بل هو مضطرٌّ إليه على مدى الأنفاسِ في كلِّ ذرَّةٍ من ذَرَّاتِهِ باطنًا وظاهرًا، فاقتُهُ تامَّةٌ إليه. ومع ذلك فهو متخلِّفٌ عنه، مُعْرِضٌ عنه، يتبغَّضُ إليه بمعصيتِهِ، مع شدَّة الضرورة إليه من كلِّ وجهٍ، قد صار لِذِكْرِهِ نَسِيًّا، واتَّخذه وراءَهُ ظِهْرِيًّا. هذا؛ وإليه مرجعُهُ، وبين يديهِ موقفُهُ؟!
(١) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (٢٦٥٤) عن عبد الله بن عمرو.