والعناية دالٌّ على محبته، وما فيها من الإهانة والإبعاد والخذلان دالٌّ على بِغضته ومَقتِه، وما فيها من ابتداءِ الشيءِ في غايةِ النقص والضَّعْفِ ثم سوقه إلى تمامه ونهايته دالٌّ على وقوع المعاد، وما فيها من أحوال النبات والحيوان وتصرُّف المياه دليلٌ على إمكان المعاد، وما فيها من ظهور آثار الرحمة والنعمة على خلقه دليلٌ على صحة النُّبُوَّات، وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة دليلٌ على أنَّ مُعطي تلك الكمالات أحقُّ بها؛ فمفعولاتُهُ من أدلِّ شيءٍ على صفاتِهِ وصِدْقِ ما أخبرتْ به رسُلُه عنه.
فالمصنوعاتُ شاهدة تُصدِّقُ الآياتِ المسموعاتِ، منبِّهةٌ على الاستدلال بالآياتِ المصنوعات.
قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: ٥٣]؛ أي: أنَّ القرآن حقٌّ؛ فأخبر أنه لا بدَّ أن يُريهم من آياتِهِ المشهودة ما يُبَيِّنُ لهم أنَّ آياتِهِ المتلوَّة حقٌّ، ثم أخبر بكفاية شهادته على صحة خبره بما أقام من الدَّلائل والبراهين على صدق رسولِهِ؛ فآياتُهُ شاهدةٌ بصدقِهِ، وهو شاهدٌ بصدقِ رسولِهِ بآياته؛ فهو الشاهدُ والمشهودُ له، وهو الدليلُ والمدلولُ عليه؛ فهو الدليلُ بنفسه على نفسه؛ كما قال بعضُ العارفين: كيف أطلبُ الدليل على من هو دليلٌ لي على كلِّ شيءٍ؟! فأيُّ دليلٍ طلبتُه عليه؛ فوجودُه أظهرُ منه.
ولهذا قال الرسلُ لقومِهِم: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ [إبراهيم: ١٠]؟! فهو أعرف من كلِّ معروفٍ، وأبينُ من كلِّ دليل؛ فالأشياءُ عُرِفَتْ به في الحقيقة، وإنْ كان عُرِفَ بها في النظر والاستدلال بأفعالِهِ وأحكامِهِ عليه.