الأول إذا عُرِض عليه ما يلتذُّ به هذا لم تسمَحْ نفسه به ولم تلتفتْ إليه ونفرتْ نفسه منه.
وأكمل الناس لذةً من جُمِع له بين لذَّة القلب والروح ولذة البدن؛ فهو يتناول لذَّاته المباحة على وجهٍ لا ينقُصُ حظّه من الدار الآخرة ولا يقطع عليه لذَّةَ المعرفة والمحبة والأنس بربِّه؛ فهذا ممن قال تعالى فيه: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف: ٣٢]. وأبخسُهم حظًّا من اللذة من تناولها على وجهٍ يحولُ بينه وبين لذَّات الآخرة، فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللَّذَّاتِ: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ [الأحقاف: ٢٠].
فهؤلاء تمتعوا بالطيبات، وأولئك تمتعوا بالطيبات. وافترقوا في وجه التمتع: فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي أُذِن لهم فيه، فجُمِعَ لهم بين لذَّة الدُّنيا والآخرة. وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة، وسواءٌ أُذن لهم فيه أم لا، فانقطعت عنهم لذَّةُ الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة؛ فلا لذَّةُ الدنيا دامتْ لهم ولا لذَّةُ الآخرة حصلتْ لهم.
فمن أحبَّ اللذة ودوامها والعيشَ الطيب فليجعلْ لذة الدُّنيا موصلًا له إلى لذة الآخرة؛ بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله وإرادته وعبادته، فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه، لا بحكم مجرَّد الشهوة والهوى. وإن كان ممن زُوِيَتْ عنه لذَّاتُ الدُّنيا وطيباتُها فليجعل ما نُقِصَ منها زيادةً في لذَّة الآخرة، ويُجِمَّ نفسَه ها هنا بالترك ليستوفيها كاملةً هناك.