بمنزلة الحب الذي يوضع في الرَّحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلةً قط، بل لا بد لها من شيءٍ يوضع فيها؛ فمن الناس من تطحن رحاه حَبًّا يخرج دقيقًا ينفع به نفسَه وغيره، وأكثرهم يطحن رملًا وحصىً وتْبِنًا ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العَجْن والخَبْز تبيَّن له حقيقةُ طحينه.
فصل
فإذا دفعتَ الخاطر الوارد عليك اندفعَ عنك ما بعده، وإن قبلتَه صار فكرًا جوالًا، فاستخدَم الإرادةَ، فتساعدتْ هي والفكر على استخدام الجوارح؛ فإن تعذَّر استخدامُها رجعا إلى القلب بالمُنَى والشهوة وتَوجُّهِه إلى جهة المراد.
ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهلُ من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فأنفع الدواء أن تَشغلَ نفسَك بالفكر فيما يَعنِيك دون ما لا يَعنِيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه.
فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحقُّ شيءٍ بإصلاحه من نفسك؛ فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعدُ بها أو تقرُبُ من إلهك ومعبودك الذي لا سعادةَ لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكلُّ الشقاء في بعدك عنه وسخطِه عليك.
ومن كان في خواطره ومجالاتِ فكره دنيئًا خسيسًا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.