للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو بمنزلة من سَلِمَتْ نفسُه من إرادة الشهوات فلم تَخْطُر بقلبه ولم تَدْعُه إليها نفسه؛ بخلاف الفرقة الأولى؛ فإنهم يعرفونها وتميلُ إليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله.

وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة: أيُّهما أفضلُ: رجلٌ لم تَخْطُرْ له الشهواتُ ولم تَمُرَّ بباله، أو رجلٌ نازعتْهُ إليها نفسُه فتركها لله؟ فكتب عمرُ: إنَّ الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله ﷿ من ﴿الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)[الحجرات: ٣] (١).

وهكذا من عَرف البدعَ والشرك والباطل وطُرُقَهُ؛ فأبغضَها لله، وحَذِرَها، وحَذَّر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يَدَعْها تَخْدِشُ وجهَ إيمانه ولا تُورِثُهُ شبهةً ولا شكًّا، بل يزدادُ بمعرفتها بصيرةً في الحقِّ ومحبةً له، وكراهةً لها ونفرةً عنها: أفضلُ ممَّن لا تخطُرُ بباله ولا تَمُرُّ بقلبه؛ فإنَّه كلما مرت بقلبه وتصوَّرتْ له ازداد محبةً للحقِّ ومعرفة بقدره وسُرورًا به، فيَقْوَى إيمانُهُ به؛ كما أن صاحب خواطر الشَّهواتِ والمعاصي كلَّما مرَّت به فرغب عنها إلى ضدِّها؛ ازداد محبَّةً لضدِّها ورغبةً فيه وطلبًا له وحرصًا عليه؛ فما ابتلى الله سبحانه عبدَهُ المؤمنَ بمحبة الشهوات والمعاصي وميلِ نفسِه إليها؛ إلا ليَسُوقَه بها إلى محبَّهِ ما هو أفضلُ منها وخيرٌ له وأنفعُ وأدومُ، وليُجاهِدَ نفسَه على تركها له سبحانه، فتُورِثُه تلك المجاهدةُ الوصولَ إلى المحبوب الأعلى؛ فكلما نازعتْه نفسُه إلى تلك الشهوات واشتدَّت إرادتُه لها وشوقُه إليها؛ صَرَفَ ذلك الشوقَ والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبُه له أشدَّ،


(١) انظر تفسير ابن كثير (٧/ ٣٢٦٣) والدر المنثور (١٣/ ٥٣٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>