للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأحقاف: ٣٥]؛ فإذا أغصانُ النباتِ تَهْتَزُّ بخُزامىَ ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة: ١٩٤]؛ فدخل مكة دُخولًا ما دَخَلَهُ أحدٌ قبلَه ولا بعدَه؛ حولَه المهاجرونَ والأنصارُ، لا يَبينُ منهم إلا الحَدَقُ، والصحابةُ على مراتبِهَم، والملائكةُ فوق رؤوسِهم، وجبريلُ يتردَّدُ بينَه وبين ربِّهِ، وقد أباحَ له حَرَمَهُ الذي لم يُحِلَّهُ لأحدٍ سواه (١).

فلمَّا قايَسَ بين هذا اليوم وبين يوم ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال: ٣٠]، فأخْرَجوه ثانيَ اثنين؛ دخلَ وذَقَنُه يَمَسُّ قرَبوسَ سرجِهِ، خضوعًا وذُلًّا لمن ألبسَهُ ثوبَ هذا العزِّ الذي رَفعَتْ إليه فيه الخليقةُ رؤوسَها، ومَدَّتْ إليه الملوكُ أعناقها.

فدخَلَ مكَّةَ مالكًا مؤيَّدًا منصورًا، وعلا كَعْبُ بلالٍ فوقَ الكعبةِ بعد أن كان يُجَرُّ في الرَّمضاءِ على جَمْرِ الفتنة، فنَشَرَ بَزًّا طُوي عن القوم من يوم قولِهِ: أحدٌ أحدٌ، ورَفعَ صوتَه بالأذانِ، فأجابتهُ القبائلُ من كلِّ ناحيةٍ، فأقبلوا يؤمُّونَ الصوتَ، فدخلوا في دين الله أفواجًا، وكانوا قبل ذلك يأتونَ آحادًا.

فلمَّا جَلَسَ الرسولُ على منبر العزِّ -وما نَزلَ عنه قطُّ- مَدَّتِ الملوكُ أعناقها بالخُضوع إليه؛ فمنهم من سلَّمَ إليه مفاتيحَ البلادِ، ومنهم من سألَهُ الموادعةَ والصُّلْح، ومنهم من أقرَّ بالجزيةِ والصَّغارِ، ومنهم من أخذ في الجمع والتأهُّب للحرب ولم يَدْرِ [أنَّه] لم يزِد على جمع الغنائم وسَوْقِ الأسارى إليه.


(١) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (١٨٣٤) ومسلم (١٣٥٣) عن ابن عباس مرفوعًا، وفيه: "وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار".

<<  <  ج: ص:  >  >>