وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ وَجْهَيْنِ: فِي أَنَّ الِابْتِدَاءَ أَفْضَلُ أَوْ الْجَوَابَ.
وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الِابْتِدَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْجَوَابِ، بَلْ إنَّ الْمُبْتَدِئَ خَيْرٌ مِنْ الْمُجِيبِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُبْتَدِئَ فَعَلَ حَسَنَةً وَتَسَبَّبَ إلَى فِعْلِ حَسَنَةٍ. وَهِيَ الْجَوَابُ مَعَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِابْتِدَاءُ مِنْ حُسْنِ الطَّوِيَّةِ، وَتَرْكِ الْهَجْرِ وَالْجَفَاءِ، الَّذِي كَرِهَهُ الشَّارِعُ.
الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: صَلَاةُ نَافِلَةٍ وَاحِدَةٍ أَفْضَلُ مِنْ إحْدَى الْخَمْسِ الْوَاجِبِ فِعْلُهَا عَلَى مَنْ تَرَكَ وَاحِدَة مِنْهَا، وَنَسِيَ عَيْنَهَا.
قُلْت: لَمْ أَرَ مَنْ تَعَقَّبَهُ، وَهُوَ أَوْلَى بِالتَّعَقُّبِ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ صَلَاةَ نَافِلَةٍ وَاحِدَةٍ أَفْضَلُ مِنْ إحْدَى الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ، فِيهِ نَظَرٌ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّهَا إنْ لَمْ تَزِدْ عَلَيْهَا فِي الثَّوَابِ لَا تَنْقُصُ عَنْهَا.
الرَّابِعُ: الْأَذَانُ سُنَّة وَهُوَ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: أَفْضَلُ مِنْ الْإِمَامَةِ، وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، أَوْ عَيْنٍ.
وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ السُّبْكِيُّ فِي الْحَلَبِيَّاتِ، فَأَجَابَ بِوُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْجَمَاعَةِ فَرْضًا كَوْنُ الْإِمَامَةِ فَرْضًا. لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ: تَتَحَقَّقُ بِنِيَّةِ الْمَأْمُومِ الِائْتِمَامَ، دُونَ نِيَّةِ الْإِمَامِ.
وَلَوْ نَوَى الْإِمَامُ فَنِيَّتُهُ مُحَصِّلَةٌ لِجُزْءِ الْجَمَاعَةِ. وَالْجُزْءُ هُنَا: لَيْسَ مِمَّا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْكُلُّ لِمَا بَيَّنَاهُ، فَلَمْ يَلْزَمْ وُجُوبُهُ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِمَامَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَمْ يَحْصُلْ تَفْضِيلُ نَفْلِ عَلَى فَرْضٍ، وَإِنَّمَا نِيَّةُ الْإِمَامِ شَرْط فِي حُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْجَمَاعَةِ صِفَةٌ لِلصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْأَذَانُ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي أَنَّ الْفَرْضَ أَفْضَلُ مِنْ النَّفْلِ فِي الْعِبَادَتَيْنِ الْمُسْتَقِلَّتَيْنِ أَوْ فِي الصِّفَتَيْنِ.
أَمَّا فِي عِبَادَةٍ، وَصِفَةٍ، فَقَدْ تَخْتَلِفُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَذَانَ وَالْجَمَاعَةَ جِنْسَانِ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي أَنَّ الْفَرْضَ أَفْضَلُ مِنْ النَّفْلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ أَمَّا فِي الْجِنْسَيْنِ: فَقَدْ تَخْتَلِفُ، فَإِنَّ الصَّنَائِعَ وَالْحِرَفَ فُرُوضُ كِفَايَاتٍ، وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ وَاحِدَةً مِنْ رَذَائِلِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ سَلِمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ خُرُوجًا مِنْ الْإِثْمِ، فَفِي تَطَوُّعِ الصَّلَاةِ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا قَدْ يُجْبِرُ ذَلِكَ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَجِنْسُ الْفَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ النَّفْلِ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْجِنْسِ الْمَفْضُولِ مَا يَرْبُو عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْفَاضِلِ، كَتَفْضِيلِ بَعْضِ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ.