بِالْكُلِّيَّةِ إمَّا لِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا أَوْ لِقِيَامِ غَيْرِهَا مَقَامَهَا وَبَيَانُ هَذَا: أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ مَصْلَحَةٌ لِحُصُولِ الضَّبْطِ بِهَا عَنْ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ وَالتَّقْصِيرِ ; إذْ الْفَاسِقُ لَيْسَ لَهُ وَازِعٌ دِينِيٌّ، فَلَا يُوثَقُ بِهِ فَاشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ فِي مَحِلِّ الضَّرُورَاتِ ; لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو إلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ فِي نَقْلِهَا وَصَوْنِهَا عَنْ الْكَذِبِ. وَكَذَلِكَ فِي الْفَتْوَى أَيْضًا لِصَوْنِ الْأَحْكَامِ ; وَلِحِفْظِ دِمَاءِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَبْضَاعِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ عَنْ الضَّيَاعِ، فَلَوْ قُبِلَ فِيهَا قَوْلُ الْفَسَقَةِ وَمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ لَضَاعَتْ. وَكَذَلِكَ فِي الْوِلَايَاتِ عَلَى الْغَيْرِ كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَالْقَضَاءِ، وَأَمَانَةِ الْحُكْمِ وَالْوِصَايَةِ، وَمُبَاشَرَةِ الْأَوْقَاف، وَالسِّعَايَةِ فِي الصَّدَقَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; لِمَا فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى الْفَاسِقِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ.
وَأَمَّا مَحِلُّ الْحَاجَاتِ: فَفِي مِثْلِ تَصَرُّفَاتِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ لِأَبْنَائِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ طُرِدَ فِيهِ الْخِلَافُ الْآتِي فِي النِّكَاحِ وَالْمُؤَذِّنُ الْمَنْصُوبُ لِاعْتِمَادِ النَّاسِ عَلَى قَوْلِهِ فِي دُخُولِ الْأَوْقَاتِ ; إذْ لَوْ كَانَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ ; لَحَصَلَ الْخَلَلُ فِي إيقَاعِ الصَّلَوَاتِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهَا وَأَمَّا مَحِلُّ التَّتِمَّاتِ: فَكَإِمَامَةِ الصَّلَوَاتِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْعَدَالَةُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدنَا إذْ لَيْسَ فِيهَا تَوَقُّعُ خَلَلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ ; لِأَنَّ تَوَهُّمَ قِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ نَادِرٌ فِي الْفُسَّاقِ.
وَكَذَلِكَ وِلَايَةُ الْقَرِيبِ عَلَى قَرِيبِهِ الْمَيِّتِ فِي التَّجْهِيزِ وَالتَّقَدُّمِ عَلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّ فَرْطَ شَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَكَثْرَةَ حُزْنِهِ تَبْعَثُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي ذَلِكَ، وَقُوَّةِ التَّضَرُّعِ فِي الدُّعَاءِ لَهُ، فَالْعَدَالَةُ فِيهِ مِنْ التَّتِمَّاتِ وَأَمَّا الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ ; لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَكَالْإِقْرَارِ لِأَنَّ طَبْعَ الْإِنْسَانِ يَزَعُهُ عَنْ أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يَقْتَضِي قَتْلًا، أَوْ قَطْعًا، أَوْ تَغْرِيمَ مَالٍ، فَقُبِلَ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ اكْتِفَاءً بِالْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ.
وَلِهَذَا يُقْبَلُ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِمَا يَقْتَضِي الْقِصَاصَ دُونَ مَا يُوجِبُ الْمَالَ ; لِأَنَّ طَبْعَهُ يَزَعُهُ عَنْ إضْرَارِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ إضْرَارِ سَيِّدِهِ وَاَلَّذِي يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ: التَّوْكِيلُ وَالْإِيدَاعُ مِنْ الْمَالِكِ، فَإِنَّ نَظَرَهُ لِنَفْسِهِ قَائِمٌ مَقَامَ نَظَرِ الشَّرْعِ لَهُ فِي الِاحْتِيَاطِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ الْفَاسِقَ وَيُودِعَ عِنْدَهُ لِأَنَّ طَبْعَ الْمَالِكِ يَزَعُهُ عَنْ إتْلَافِ مَالِهِ بِالتَّفْرِيطِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute