للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَقَاعِدَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ) وَهَذَا الْفَرْقُ أَيْضًا عَظِيمُ الْقَدْرِ جَلِيلُ الْخَطَرِ وَبِتَحْقِيقِهِ تَنْفَرِجُ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الْإِشْكَالَاتِ وَتَرِدُ إشْكَالَاتٌ عَظِيمَةٌ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ وَسَأُبَيِّنُ لَك ذَلِكَ فِي هَذَا الْفَرْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَحْرِيرُ الْقَاعِدَتَيْنِ أَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالنَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ مَعَ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَنْ لَا تُطْلَقَ إلَّا عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْوُجُوبِ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُلْفَةِ، وَالْكُلْفَةُ لَمْ تُوجَدْ إلَّا فِيهِمَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ خَوْفَ الْعِقَابِ وَأَمَّا مَا عَدَاهُمَا فَالْمُكَلَّفُ فِي سَعَةٍ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فَلَا كُلْفَةَ حِينَئِذٍ غَيْرَ أَنَّ جَمَاعَةً يَتَوَسَّعُونَ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْجَمِيعِ تَغْلِيبًا لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ فَهَذَا خِطَابُ التَّكْلِيفِ وَأَمَّا خِطَابُ الْوَضْعِ فَهُوَ خِطَابٌ بِنَصْبِ الْأَسْبَابِ كَالزَّوَالِ وَرُؤْيَةِ الْهَلَاكِ وَنَصْبِ الشُّرُوطِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ وَنَصْبِ الْمَوَانِعِ كَالْحَيْضِ مَانِعٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْقَتْلِ مَانِعٌ مِنْ الْمِيرَاثِ وَنَصْبِ التَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ، أَوْ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ كَمَا نُقَدِّرُ رَفْعَ الْإِبَاحَةِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا قَبْلَ الرَّدِّ. وَنَقُولُ: ارْتَفَعَ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ لَا مِنْ حِينِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَنُقَدِّرُ النَّجَاسَةَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فِي صُوَرِ الضَّرُورَاتِ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَمَوْضِعِ الْحَدَثِ فِي الْمَخْرَجَيْنِ وَنُقَدِّرُ وُجُودَ الْمِلْكِ لِمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي لِتَثْبُتَ لَهُ الْكَفَّارَةُ وَالْوَلَاءُ مَعَ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَنُقَدِّرُ الْمِلْكَ فِي دِيَةِ الْمَقْتُولِ خَطَأً قَبْلَ مَوْتِهِ حَتَّى يَصِحَّ فِيهِ الْإِرْثُ فَهَاتَانِ مِنْ بَابِ إعْطَاءِ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ وَالْأُولَيَانِ مِنْ بَابِ إعْطَاءِ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَلَا يَكَادُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يَنْفَكُّ عَنْ التَّقْدِيرِ وَقَدْ بَسَطْت ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأُمْنِيَةِ فِي إدْرَاكِ النِّيَّةِ حَيْثُ تَكَلَّمْت فِيهَا عَلَى رَفْضِ النِّيَّةِ وَرَفْعِهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا مَعَ أَنَّ رَفْعَ الْوَاقِعِ مُحَالٌ عَقْلًا وَالشَّرْعُ لَا يُرَدُّ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَحَرَّرْت التَّقَادِيرَ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ هُنَالِكَ

فَهَذَا هُوَ تَصْوِيرُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَخِطَابِ الْوَضْعِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَكَوْنُهُ مِنْ كَسْبِهِ بِخِلَافِ خِطَابِ الْوَضْعِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهِ فَلِذَلِكَ نُوَرِّثُ بِالْإِنْسَابِ مَنْ لَا يُعْلَمُ نَسَبُهُ وَيَدْخُلُ الْعَبْدُ الْمَوْرُوثُ فِي مِلْكِهِ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَعَ غَفْلَتِهِ عَنْ ذَلِكَ وَعَجْزِهِ عَنْ دَفْعِهِ وَيُطْلَقُ بِالْإِضْرَارِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قَالَ (الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَقَاعِدَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا هُوَ تَصْوِيرُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَخِطَابِ الْوَضْعِ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ وَنُقَدِّرُ وُجُودَ الْمِلْكِ لِمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي لِتَثْبُتَ لَهُ الْكَفَّارَةُ وَالْوَلَاءُ مَعَ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَنُقَدِّرُ الْمِلْكَ فِي دِيَةِ الْمَقْتُولِ خَطَأً قَبْلَ مَوْتِهِ حَتَّى يَصِحَّ فِيهَا الْإِرْثُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا. قَالَ (وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتِهِ إلَى قَوْلِهِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

كَعُقُوقِهِمَا فَهُوَ وَإِنْ قَالَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ إلَّا أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِهِ فِي الْحَدِيثِ مُنَافٍ لِكَلَامِ أَئِمَّتِنَا فَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ بَلْ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ اخْتَصَّا مِنْ الرِّعَايَةِ وَالِاحْتِرَامِ وَالطَّوْعِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ جِدًّا وَغَايَةٍ رَفِيعَةٍ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَقَارِبِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي عُقُوقِهِمَا وَكَوْنِهِ فِسْقًا بِمَا لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي عُقُوقِ غَيْرِهِمَا انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَطْعَ الْمُكَلَّفِ مَا أَلِفَهُ الْأَجْنَبِيُّ مِنْهُ مِمَّا ذُكِرَ بِلَا عُذْرٍ لَا يَكُونُ كَبِيرَةً فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ لِلْأَجْنَبِيِّ وَجَبَ لِذَوِي الرَّحِمِ وَكُلَّ مَا وَجَبَ لِذَوِي الرَّحِمِ مِنْ غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ وَجَبَ لِلْأَبَوَيْنِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ لُغَوِيٍّ فِيهِمَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى.

٢ -

(وَصْلٌ) فِي تَحْقِيقِ فِقْهِ هَذَا الْفَرْقِ بِعَشْرِ مَسَائِلَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) فِي مُخْتَصَرِ الْجَامِعِ قِيلَ لِمَالِكٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لِي وَالِدَةٌ وَأُخْتٌ وَزَوْجَةٌ فَكُلَّمَا رَأَتْ لِي شَيْئًا قَالَتْ أَعْطِ هَذَا لِأُخْتِك فَإِنْ مَنَعْتُهَا ذَلِكَ سَبَّتْنِي وَدَعَتْ عَلَيَّ قَالَ لَهُ مَالِكٌ مَا أَرَى أَنْ تُغَايِظَهَا وَتَخْلُصَ مِنْهَا أَيْ مِنْ سَخَطِهَا بِمَا قَدَرْت عَلَيْهِ.

٢ -

(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) فِي مُخْتَصَرِ الْجَامِعِ أَيْضًا قَالَ: رَجُلٌ لِمَالِكٍ وَالِدِي فِي بَلَدِ السُّودَانِ كَتَبَ إلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ عَلَيْهِ وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ أَطِعْ أَبَاك وَلَا تَعْصِ أُمَّك يَعْنِي أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي رِضَا أُمِّهِ بِسَفَرِهِ لِوَالِدِهِ وَلَوْ بِأَخْذِهَا مَعَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ طَاعَةِ أَبِيهِ وَعَدَمِ عِصْيَانِ أُمِّهِ وَرُوِيَ أَنَّ اللَّيْثَ أَمَرَهُ بِإِطَاعَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ لَهَا ثُلُثَيْ الْبِرِّ كَمَا حَكَى الْبَاجِيَّ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى زَوْجِهَا فَأَفْتَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ابْنَهَا بِأَنْ يَتَوَكَّلَ لَهَا عَلَى أَبِيهِ فَكَانَ يُحَاكِمُهُ وَيُخَاصِمُهُ فِي الْمَجَالِسِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْأُمِّ وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: لِأَنَّهُ عُقُوقٌ لِلْأَبِ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ بِرَّهُ أَقَلُّ مِنْ بِرِّ الْأُمِّ لَا أَنَّ الْأَبَ يُعَقُّ وَذَلِكَ الْحَدِيثُ هُوَ أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّك قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّك قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّك قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوك ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ» وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ الْمَسَائِلِ فَتَرَقَّبْ.

٢ -

(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَالَ: فِي الْمَوَّازِيَّةِ إذَا مَنَعَهُ أَبَوَاهُ مِنْ الْحَجِّ لَا يَحُجُّ إلَّا بِإِذْنِهِمَا إلَّا الْفَرِيضَةَ فَنَصَّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِي النَّافِلَةِ وَقَالَ: فِي الْمَجْمُوعَةِ يُوَافِقُهُمَا فِي حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ أَيْ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>