بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ مَعَ جَوَازِ التَّأْخِيرِ مُتَنَافِيَانِ وَالْأَصْلُ تَرَتُّبُ الْمُسَبَّبِ عَلَى سَبَبِهِ وَالزَّوَالُ سَبَبٌ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ مُسَبَّبُهُ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَمَا يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ قَضَاءٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْأَدَاءِ فَهَذَا مُسْتَنَدُهُ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِذْنَ فِي تَفْوِيتِ الْأَدَاءِ لِفِعْلِ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ خِلَافُ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ نَعَمْ يَجُوزُ الْإِذْنُ فِي تَفْوِيتِ الْأَدَاءِ لِفِعْلِ الْقَضَاءِ لِضَرُورَةِ السَّفَرِ أَوْ الْمَرَضِ كَمَا فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَجُوزُ تَرْكُ أَدَائِهَا لِلْقَضَاءِ لِأَجْلِ الْعُذْرِ أَمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَغَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَأَخْفَقَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فَهَذَا مُسْتَنَدُ هَذَا الْمَذْهَبِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ الْمَذْهَبُ الثَّانِي لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَمُسْتَنَدُهُ أَنَّا نَسْتَدِلُّ بِثُبُوتِ خَصِيصَةِ الشَّيْءِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَبِعَدَمِ خَصِيصَةِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِهِ.
وَمِنْ خَصَائِصِ الْوُجُوبِ الْعِقَابُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ وَوَجَدْنَا هَذِهِ الْخِصِّيصَةَ مُنْتَفِيَةً فِي غَيْرِ آخِرِ الْوَقْتِ فَقُلْنَا بِنَفْيِ الْوُجُوبِ فِي غَيْرِ آخِرِ الْوَقْتِ وَوَجَدْنَاهَا آخِرَ الْوَقْتِ فَقُلْنَا بِالْوُجُوبِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَإِنْ وَقَعَ الْفِعْلُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ نَفْلًا يَسُدُّ مَسَدَّ الْفَرْضِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ إجْزَاءَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْفِعْلَ مَوْقُوفٌ إذَا عَجَّلَهُ الْمُكَلَّفُ فَإِنْ جَاءَ آخِرُ الْوَقْتِ وَفَاعِلُهُ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ كَانَ فِعْلُهُ هَذَا وَاجِبًا فَمَا أَجْزَأَ عَنْ الْوَاجِبِ إلَّا وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ كَانَ نَفْلًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ وَقْتِ الْوُجُوبِ وَسَبَبُ هَذَا الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ يَقُولُ يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَرَأَى مَا وَرَدَ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ مِنْ إجْزَاءِ النَّفْلِ عَنْ الْفَرْضِ فَاخْتَارَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ حَالَةَ الْإِيقَاعِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا وَلَا تَتَعَيَّنُ فِيهِ نِيَّةٌ لِأَحَدِهِمَا خِلَافُ الْمَعْهُودِ فِي الْقَوَاعِدِ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْمُكَلَّفَ إنْ عَجَّلَ الْفِعْلَ مَنَعَ تَعْجِيلَهُ مِنْ تَعْلِيقِ الْوُجُوبِ بِآخِرِ الْوَقْتِ فَلَا يُجْزِئُ نَفْلٌ عَنْ فَرْضٍ وَلَا يَكُونُ مَوْقُوفًا بَلْ يَنْوِي بِهِ النَّفَلَ وَإِنْ لَمْ يُعَجِّلْهُ كَانَ آخِرُ الْوَقْتِ وَاجِبًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْوُجُوبِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَلَى الْكَرْخِيِّ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يُطِيعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِصَلَاةٍ وَاجِبَةٍ وَلَا أُثِيبُوا ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا وَذَلِكَ حَظٌّ عَظِيمٌ يَفُوتُ عَلَيْهِمْ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ «مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدٌ أَوْ أَحَدٌ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ فَثَوَابُ الْوَاجِبَاتِ هُوَ أَفْضَلُ الْمَثُوبَاتِ فَالْقَوْلُ بِفَوَاتِهِ عَلَيْهِمْ مَحْذُورٌ كَبِيرٌ.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ حَكَاهُ سَيْفُ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَمَا قَالَهُ مِنْ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ إنْ أَرَادَ الْكُلِّيَّ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادَ تَعَلُّقَ الْوُجُوبِ بِفَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَمَا اخْتَارَهُ وَصَحَّحَهُ وَنَسَبَهُ إلَى الْمَالِكِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الِاحْتِمَالُ حَالِيٌّ لَا مَقَالِيٌّ وَالِاحْتِمَالَاتُ الْحَالِيَّةُ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهَا أَظْهَرَ مِنْ بَعْضٍ فَيُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ مِنْهَا بِخِلَافِ الْحَالَاتِ الْمَقَالِيَّةِ فَإِنَّهُ تَكُونُ مُسْتَوِيَةً فِي الْمُحْتَمَلَاتِ وَغَيْرَ مُسْتَوِيَةٍ فِي الظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلَاتِ، وَأَمَّا مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَّا مَنْ أَسْلَمَ وَأَحْسَنَ فِي إسْلَامِهِ فَإِنَّهُ يُجْزَى بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ» فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْإِحْسَانِ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي لَا شَرْطَ لِثُبُوتِ الْأَعْمَالِ سِوَاهُ بَلْ لَوْ سُلِّمَ ظُهُورُ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فِي اشْتِرَاطِ غَيْرِهِ لَكَانَ كُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ مِمَّا يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مُتَأَوَّلًا بِأَنَّهُ الْمُرَادُ لِاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي مَعَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُضْحِيَّةِ لَمَّا ذَبَحَهَا «اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» فَالِاحْتِمَالُ فِيهِ كَالِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَمَّا كَوْنُ صُلَحَاءِ الْأُمَّةِ وَخِيَارِهَا لَمْ يَزَالُوا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى الْقَبُولَ فِي الْعَمَلِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا حُصُولَ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْمُوَافَاةُ عَلَى الْإِيمَانِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ أَوْ طَلَبُوا الْمُسَامَحَةَ فِي إغْفَالِ بَعْضِ شُرُوطِ الْأَعْمَالِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ عَلَى الْكَمَالِ.
وَأَمَّا قَوْلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ الصَّلَاةِ لَمَا يُقْبَلُ نِصْفُهَا وَثُلُثُهَا وَرُبْعُهَا وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلَقُ فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا» فَلَا دَلِيلَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ فِيهِ عَلَى مَا أَوْرَدَ لَا بِظَاهِرٍ وَلَا بِبَاطِنٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَكُنْ مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا وَأَوْصَافِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يُلَفُّ كَمَا تُلَفُّ إلَخْ إذْ لَوْ كَانَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا وَأَوْصَافِهَا لَمْ يَكُنْ لِشَبَهِهَا بِالثَّوْبِ الْخَلَقِ وَجْهٌ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَغْزَى هَذَا الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ التَّحْذِيرُ مِنْ التَّهَاوُنِ بِشُرُوطِهَا وَالتَّحْرِيضُ عَلَى مُرَاعَاةِ أَحْوَالِهَا فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثَّوَابُ مَعَ تَقْدِيرِ كَمَالِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَجَمِيعِ أَوْصَافِهَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ كَمَا عَلِمْت يُنَافِي قَوْلَهُ إنَّ أَدَاءَ الدُّيُونِ وَشَبَهَهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ حَتَّى يَنْوِيَ بِهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: إنْ أَرَادَ بِهِ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْضَارِ نِيَّةِ الِامْتِثَالِ وَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ أَدَاءِ الدُّيُونِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يُحْرَمُ صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالَةِ الثَّوَابَ اسْتِدْلَالًا بِقَاعِدَةِ سَعَةِ بَابِ الثَّوَابِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ إذَا نَوَى سَبَبًا لِلْأَدَاءِ غَيْرَ الِامْتِثَالِ كَتَخَوُّفِهِ أَنْ لَا يُدَايِنَهُ أَحَدٌ إذَا عُرِفَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَدَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ