للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ خُولِفَ هَذَا الْقِيَاسُ بِالْجَمْعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْمَنْدُوبِ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ تُرِكَ فِيهِ وَاجِبَانِ أَحَدُهُمَا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا وَهِيَ الْعَصْرُ فَتُقَدَّمُ وَتُصَلَّى مَعَ الظُّهْرِ مَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْوَقْتِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَثَانِيهِمَا تَرْكُ الْجُمُعَةِ إذَا جَاءَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيُصَلَّى الظُّهْرُ أَرْبَعًا فَتُرِكَ الْوَاجِبُ أَيْضًا لَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ لِأَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْجُمُعَةِ كَمَا يَنْدَفِعُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَلِذَلِكَ لَمَّا حَجَّ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَمَعَهُ أَبُو يُوسُفَ وَاجْتَمَعَا بِمَالِكٍ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَقَعَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا اجْتَمَعَ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ يَوْمَ عَرَفَةَ قُدِّمَتْ الْجُمُعَةُ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ وَوَاجِبَةٌ قَبْلَ الظُّهْرِ مَعَ الْإِمْكَانِ قَالَ لَهُ مَالِكٌ إنَّ ذَلِكَ خِلَافَ السُّنَّةِ فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَيْنَ لَك ذَلِكَ وَأَنَّهُ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قَالَ (وَقَدْ خُولِفَ هَذَا الْقِيَاسُ بِالْجَمْعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْمَنْدُوبِ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ تَرْكَ الْوَاجِبِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَلَا يُفِيدُهُ ذَلِكَ مَقْصُودُهُ وَإِنْ أَرَادَ تَرْكَ الْوَاجِبِ فِي حَالٍ شَرْعِيَّةِ الْجَمْعِ فَلَيْسَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا بِوَاجِبٍ فَلَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا بَلْ صَارَتْ الْأَخِيرَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتِهَا وَوَقْتِ الْأُولَى وَمَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ وَقْتِهِ الْمُوَسَّعِ لَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا أَصْلًا وَإِنَّمَا السَّبَبُ فِيمَا ارْتَكَبَهُ ذَهَابُ الْوَهْمِ إلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا وَاجِبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْوَاجِبُ وَلَيْسَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا هُوَ بِعَيْنِهِ الْوَاجِبُ أَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِمَا قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ هُوَ بِعَيْنِهِ الْوَاجِبَ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا هُوَ الصَّلَاةُ وَالتَّأْخِيرُ وَالتَّقْدِيمُ أَمْرَانِ إضَافِيَّانِ فَمَتَى نُسِبَ الْوُجُوبُ إلَى التَّأْخِيرِ أَوْ إلَى التَّقْدِيمِ فَلَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ الْمَقْصُودُ بِوُجُوبِ التَّأْخِيرِ وُجُوبُ فِعْلِ الصَّلَاةِ مُؤَخَّرَةً وَبِوُجُوبِ التَّقْدِيمِ وُجُوبُ فِعْلِهَا مُقَدَّمَةً وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ فَهِمَ شَيْئًا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ فِي حَالِ الْمَطَرِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إيقَاعِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مُقَدَّمَةً قَبْلَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ لَهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ إيثَارًا لِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَبَيْنَ إيقَاعِهَا فَذًّا فِي وَقْتِهَا الْمَذْكُورِ وَلَا غَرْوَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَمْرٍ رَاجِحٍ وَمَرْجُوحٍ وَفَاضِلٍ وَمَفْضُولٍ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّ الْعِتْقَ أَرْجَحُهَا لِرُجْحَانِ قِيمَةِ الرَّقَبَةِ عَلَى قِيمَةِ الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ بَلْ كَمَا فِي رَقَبَةٍ قِيمَتُهَا أَلْفٌ وَرَقَبَةٍ قِيمَتُهَا مِائَةٌ وَكَمَا فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ إطَالَةِ سُجُودِ الصَّلَاةِ وَتَقْصِيرِهِ وَذَلِكَ لَا يُحْصَى كَثْرَةً فِي الشَّرِيعَةِ.

قَالَ (وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ تُرِكَ فِيهِ وَاجِبَانِ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

عَالِمٌ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ مُجْتَهِدِ الْفَتْوَى وَلَا يَنْزِلَ إلَى دَرَجَةِ الْعَامِّيِّ وَسَمَّاهُ الْعَلَّامَةُ السُّيُوطِيّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ مُجْتَهِدَ الْفُتْيَا نَظَرًا لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَعَنْ شَارِحِ التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ مِنْ أَنَّهُ رُتْبَةٌ ثَالِثَةٌ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُقَلِّدِينَ إلَّا أَنَّ كَلَامَ شَارِحِ التَّحْرِيرِ الْمَارِّ وَكَلَامَ ابْنِ رُشْدٍ الْآتِي عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْتَهِدِ فُتْيَا بَلْ مُجْتَهِدُ الْفُتْيَا هُوَ مُجْتَهِدُ التَّرْجِيحِ فَتَأَمَّلْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا وَهُوَ مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِ الْمَذْهَبِ وَنَقْلِهِ وَفَهْمِهِ فِي الْوَاضِحَاتِ وَالْمُشْكِلَاتِ وَلَكِنْ عِنْدَهُ ضَعْفٌ فِي تَقْرِيرِ أَدِلَّتِهِ وَتَحْرِيرِ أَقْيِسَتِهِ فَهَذَا يُعْتَمَدُ نَقْلُهُ وَفَتْوَاهُ فِيمَا يَحْكِيهِ مِنْ مَسْطُورَاتِ مَذْهَبِهِ وَمَا لَا يَجِدُهُ مَنْقُولًا إنْ وُجِدَ فِي الْمَنْقُولَاتِ مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يُدْرِكُ بِغَيْرِ كَبِيرِ فِكْرٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا جَازَ إلْحَاقُهُ بِهِ وَالْفَتْوَى بِهِ وَكَذَا مَا يُعْلَمُ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ ضَابِطِ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَذْهَبِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ يَجِبُ إمْسَاكُهُ عَنْ الْفَتْوَى فِيهِ اهـ.

وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْأَصْلِ وَحَالُ هَذَا أَنْ يَتَّسِعَ إطْلَاعُهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ لَكِنَّهُ لَمْ يَضْبِطْ مَدَارِكَ إمَامِهِ وَمُسْتَنَدَاتِهِ وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُفْتِي بِمَا يَحْفَظُهُ وَيَنْقُلُهُ مِنْ مَذْهَبِهِ اتِّبَاعًا لِمَشْهُورِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ بِشُرُوطِ الْفُتْيَا لَا بِكُلِّ قَوْلٍ فِيهِ إذْ لَا يُعَرَّى مَذْهَبٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ عَنْ قَوْلٍ خَالَفَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ الْإِجْمَاعَ أَوْ الْقَوَاعِدَ أَوْ النَّصَّ أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ السَّالِمَ عَنْ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ لَكِنَّهُ قَدْ يَقِلُّ وَقَدْ يَكْثُرُ.

وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَنْقُلَهُ لِلنَّاسِ وَلَا يُفْتِي بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ وَلَا نُقِرُّهُ شَرْعًا وَإِنْ تَأَكَّدَ بِحُكْمِهِ فَأَوْلَى أَنْ نُقِرَّهُ شَرْعًا إذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ وَلَا يُعْلَمُ فِي مَذْهَبِهِ إلَّا مَنْ عَرَفَ الْقَوَاعِدَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَالنَّصَّ الصَّرِيحَ وَعَدَمَ الْمُعَارِضِ لِذَلِكَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي تَحْصِيلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِأُصُولِهَا مَعَ مَعْرِفَةِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ مَعْرِفَةً حَسَنَةً لَا بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّ الْقَوَاعِدَ لَيْسَتْ مُسْتَوْعَبَةً فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ لِلشَّرِيعَةِ قَوَاعِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَالْفُقَهَاءِ لَا تُوجَدُ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَصْلًا وَذَلِكَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى وَضْعِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُسَمَّى كِتَابُ الْأَنْوَارِ وَالْقَوَاعِدِ السَّنِيَّةِ لِأَضْبِطَ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ حَسْبَ طَاقَتِي وَلِاعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ يَحْرُمُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الْفَتْوَى فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ وَكَذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مُتَوَقِّفِينَ فِي الْفُتْيَا تَوَقُّفًا شَدِيدًا.

وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُفْتِيَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِذَلِكَ وَيَرَى هُوَ نَفْسُهُ أَهْلًا لِذَلِكَ يُرِيدُ تَثَبُّتَ أَهْلِيَّتِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَيَكُونُ هُوَ بِيَقِينٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>