خِلَافُ السُّنَّةِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَهُمَا خُطْبَةٌ وَهَذِهِ هِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ جَهَرَ فِيهِمَا أَوْ أَسَرَّ فَسَكَتَ أَبُو يُوسُفَ فَظَهَرَتْ الْحُجَّةُ لِمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - بِسَبَبِ الْإِسْرَارِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ جَهْرِيَّةٌ فَلَمَّا صَلَّى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَكْعَتَيْنِ سِرًّا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ سَفَرِيَّةً وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ وَالْخُطْبَةَ لِيَوْمِ عَرَفَةَ لَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ عَرَفَةَ إنَّمَا خُطْبَتُهُ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ مَنَاسِكَ الْحَجِّ كَانَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا وَالْجَوَابُ عَنْ الْجَمْعِ وَتَرْكِ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَةَ أَيْسَرُ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ الْجَمْعِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ.
أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عَرَفَةَ وَتَرْكِ الْجُمُعَةِ فَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْحَجِيجِ السَّفَرُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ الظُّهْرُ دُونَ الْجُمُعَةِ فَجُعِلَ النَّادِرُ تَبَعًا لِلْغَالِبِ فَمَنْ هُوَ مُقِيمٌ بِعَرَفَةَ أَوْ مَنْزِلُهُ قَرِيبٌ مِنْ عَرَفَةَ فَتَرْكُ الْجُمُعَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ تَرْكَ الْوَاجِبِ.
وَأَمَّا تَرْكُ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا وَهِيَ الْعَصْرُ فَلِضَرُورَةِ الْحُجَّاجِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْإِقْبَالِ عَلَى الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ وَالتَّقَرُّبِ اللَّائِقِ بِعَرَفَةَ وَهُوَ يَوْمٌ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً بَعْدَ ضَنْكِ الْأَسْفَارِ وَقَطْعِ الْبَرَارِيِ وَالْقِفَارِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ مِنْ الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ وَالْأَوْطَانِ النَّائِيَةِ فَنَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ هَذَا عَلَى مَصْلَحَةِ وَقْتِ الْعَصْرِ وَيَكُونُ هَذَا ضَرَرًا يُوجِبُ التَّقْدِيمَ كَمَا يُوجِبُ فَوَاتُ الزَّمَانِ التَّقْدِيمَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بَلْ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ الزَّمَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ أَوْ يُسَافِرَ مَعَهُ رُفْقَةٌ مُوَافِقِينَ عَلَى النُّزُولِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَهُوَ ضَرَرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَمَّا مَصَالِحُ الْحَجِّ فَأَمْرٌ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ وَلَا خُرُوجَ لَهُ عَنْهَا وَلَا يُمْكِنُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا فَهَذَا جَوَابٌ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي جَمْعِ عَرَفَةَ دُونَ جَمْعِ لَيْلَةِ الْمَطَرِ.
وَأَمَّا جَمْعُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إذَا خَافَ الْغَلَبَةَ عَلَى عَقْلِهِ آخِرَ الْوَقْتِ فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِخِلَافِ جَمْعِ الْمَطَرِ لَمْ يَتَعَيَّنْ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَلَوْ لَمْ يَجْمَعْ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ ضَاعَ الْوَاجِبُ آخِرَ الْوَقْتِ وَهُوَ الصَّلَاةُ الْأَخِيرَةُ بِغَيْبَةِ الْعَقْلِ وَضَرُورَةِ الْمَرَضِ أَوْ دَخَلَ الضَّرَرُ بِفَوَاتِ الرِّفَاقِ وَالْجَمْعُ لَيْلَةَ الْمَطَرِ لَوْ تُرِكَ إنَّمَا يَفُوتُ الْمَنْدُوبُ الَّذِي هُوَ الْجَمَاعَةُ.
وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ فَتُصَلَّى عَلَى أَفْضَلِ الْأَحْوَالِ فِي الْبُيُوتِ عِنْدَ دُخُولِ الْأَوْقَاتِ فَهَذَا جَمْعٌ يَخْتَصُّ بِهَذَا السُّؤَالِ الْقَوِيِّ وَالْجَوَابُ عَنْهُ إذَا حَصَلَ يُقَوِّي الْجَوَابَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَنَشْرَعُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْمُشْكِلَةِ فَنَقُولُ إنَّ الْمَنْدُوبَاتِ قِسْمَانِ قِسْمٌ تَقْصُرُ مَصْلَحَتُهُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فَنَشْرَعُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْمُشْكِلَةِ) قُلْتُ مَا قَالَهُ ذَلِكَ صَحِيحٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
قَالَ (فَنَقُولُ إنَّ الْمَنْدُوبَاتِ قِسْمَانِ قِسْمٌ تَقْصُرُ مَصْلَحَتُهُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مُطَّلِعًا عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ مِنْ الْإِنْسَانِ أَمْرٌ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ النَّاسُ حَصَلَ الْيَقِينُ فِي ذَلِكَ وَمَا أَفْتَى مَالِكٌ حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا لِأَنَّ التَّحْنِيكَ وَهُوَ اللِّثَامُ بِالْعَمَائِمِ تَحْتَ الْحَنَكِ شِعَارُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ تَحْنِيكٍ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى تَأَكُّدِ التَّحْنِيكِ وَهَذَا هُوَ شَأْنِ الْفُتْيَا فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ.
وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ انْخَرَقَ هَذَا السِّيَاجُ وَسَهُلَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ دِينِهِمْ فَتَحَدَّثُوا فِيهِ بِمَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ وَعَسُرَ عَلَيْهِمْ اعْتِرَافُهُمْ بِجَهْلِهِمْ وَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ لَا يَدْرِي فَلَا جَرَمَ آلَ الْحَالُ لِلنَّاسِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْجُهَّالِ وَالْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ.
قَالَ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصَ الْعُمُومَاتِ يَعْنِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ وَأَمَّا الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَيْسَتْ مُقَيَّدَةً فَبَعِيدٌ وَيَكْفِي الْآنَ فِي ذَلِكَ وُجُودُ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّوْضِيحِ أَوْ فِي ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ الَّذِي يُفْتِي فِي هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ فِي نَقْلِ الْمَذْهَبِ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَبْحَرَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى رِوَايَاتِ الْمَذْهَبِ وَتَأْوِيلِ الشُّيُوخِ لَهَا وَتَوْجِيهِهِمْ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ ظَوَاهِرَ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبَ وَتَشْبِيهِهِمْ مَسَائِلَ بِمَسَائِلَ قَدْ يَسْبِقُ إلَى النَّفْسِ تَبَاعُدُهَا وَتَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ مَسَائِلَ وَمَسَائِلَ قَدْ يَقَعُ فِي النَّفْسِ تَقَارُبُهَا وَتَشَابُهُهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بَسَطَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي كُتُبِهِمْ وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ فَهَذَا لِعَدَمِ النُّظَّارِ يُقْتَصَرُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ الْمَذْهَبِ اهـ.
وَفِي آخِرِ خُطْبَةِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لِابْنِ رُشْدٍ قَالَ إذَا جَمَعَ الطَّالِبُ الْمُقَدَّمَاتِ إلَى هَذَا الْكِتَابِ يَعْنِي الْبَيَانَ وَالتَّحْصِيلَ حَصَلَ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا يَسَعُ جَهْلُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَعَرَفَ الْعِلْمَ مِنْ طَرِيقِهِ وَأَخَذَهُ مِنْ بَابِهِ وَسَبِيلِهِ وَأَحْكَمَ رَدَّ الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ وَاسْتَغْنَى بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ عَنْ الشُّيُوخِ فِي الْمُشْكِلَاتِ وَحَصَّلَ مَرْتَبَةَ مَنْ يَجِبُ تَقْلِيدُهُ فِي النَّوَازِلِ الْمُعْضِلَاتِ وَدَخَلَ فِي زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ وَوَعَدَهُمْ فِيهِ بِتَرْفِيعِ الدَّرَجَاتِ اهـ كَلَامُ الْحَطَّابِ بِتَغْيِيرِ مَا.
قَالَ وَجَعَلَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ مَا خَالَفَ فِيهِ الْإِمَامُ النَّصَّ نَظِيرُ مَا خَالَفَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ فِي عَدَمِ جَوَازِ نَقْلِهِ لِلنَّاسِ وَإِفْتَائِهِمْ بِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِنَصِّ مَالِكٍ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنْ الْعُتْبِيَّةِ وَغَيْرِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ نَصِّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ بِخِلَافِهِ اهـ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ قَوْلِهِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ وَصْفًا لِخُصُوصِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لَا لَهُ وَلِلنَّصِّ وَإِلَّا