وَكَتَفْضِيلِ رَكْعَةِ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتِي الْفَجْرِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «مَنْ قَتَلَ الْوَزَغَةَ فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى فَلَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الثَّانِيَةِ فَلَهُ سَبْعُونَ حَسَنَةً» فَكُلَّمَا كَثُرَ الْفِعْلُ كَانَ الثَّوَابُ أَقَلَّ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ تَكْرَارَ الْفِعْلِ وَالضَّرَبَاتِ فِي الْقَتْلِ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ اهْتِمَامِ الْفَاعِلِ بِأَمْرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذْ لَوْ قَوِيَ عَزْمُهُ وَاشْتَدَّتْ حَمِيَّتُهُ لَقَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ حَيَوَانٌ لَطِيفٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى كَثْرَةِ مُتُونَةٍ فِي الضَّرْبِ فَحَيْثُ لَمْ يَقْتُلْهَا فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ عَزْمِهِ فَلِذَلِكَ يَنْقُصُ أَجْرُهُ عَنْ الْمِائَةِ إلَى السَّبْعِينَ وَالْأَصْلُ هُوَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَاعِدَةَ كَثْرَةِ الثَّوَابِ كَثْرَةُ الْفِعْلِ وَقَاعِدَةَ قِلَّةِ الثَّوَابِ قِلَّةُ الْفِعْلِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ فِي الْقُرُبَاتِ تَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الْمَصَالِحِ غَالِبًا وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمَ مَا يُرِيدُ لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِصُنْعِهِ.
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَثْبُتُ فِيهَا) اعْلَمْ أَنَّ الْمُعَيَّنَاتِ الْمُشَخَّصَاتِ فِي الْخَارِجِ الْمَرْئِيَّةَ بِالْحِسِّ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ وَلِذَلِكَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً مُعَيَّنَةً فَاسْتُحِقَّتْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَلَوْ وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ كَمَا فِي السَّلَمِ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ وَعَيَّنَهُ فَظَهَرَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا رَجَعَ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مُعَيَّنَةً لِلْحَمْلِ أَوْ غَيْرِهِ فَاسْتُحِقَّتْ أَوْ مَاتَتْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ حَمْلَ هَذَا الْمَتَاعِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ دَابَّةٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَرْكَبَهُ إلَى مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَرْكُوبٍ مُعَيَّنٍ فَعَيَّنَ لَهُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ أَوْ لِرُكُوبِهِ فَعَطِبَتْ أَوْ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ فَطَالَبَهُ بِغَيْرِهَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ بَلْ فِي الذِّمَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِكُلِّ مُعَيَّنٍ شَاءَ وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي قَاعِدَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ مَتَى كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَ الْأَمْثَالِ وَيُعْطِيَ أَيَّ مِثْلٍ شَاءَ وَلَوْ عَقَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَوْ اكْتَالَ رِطْلَ زَيْتٍ مِنْ خَابِيَةٍ وَعَقَدَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَكَتَفْضِيلِ رَكْعَةِ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتِي الْفَجْرِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ) قُلْتُ قَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهَا قَاعِدَةٌ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ وَأَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يُفَضِّلُ مَا شَاءَ عَلَى مَا شَاءَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لَا مَا سِوَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَثْبُتُ فِيهَا إلَى قَوْلِهِ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْخَاصِّ نَظَرٌ فِي تَعْيِينِ الْمَنَاطِ فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّلَائِلِ التَّكْلِيفِيَّةِ بِحَيْثُ يَتَعَرَّفُ مِنْهُ مَدَاخِلَ الشَّيْطَانِ وَمَدَاخِلَ الْهَوَى وَالْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ حَتَّى يُلْقِيَهَا هَذَا الْمُجْتَهِدُ عَلَى ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ مُقَيَّدَةً بِقُيُودِ التَّحَرُّرِ مِنْ تِلْكَ الْمَدَاخِلِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّكْلِيفِ الْمُتَحَتِّمِ وَغَيْرِهِ وَيَخْتَصُّ غَيْرُ الْمُتَحَتِّمِ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ النَّظَرُ فِيمَا يَصْلُحُ بِكُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ بِحَسَبِ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَحَالٍ دُونَ حَالٍ وَشَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ إذْ النُّفُوسُ لَيْسَتْ فِي قَبُولِ الْأَعْمَالِ الْخَاصَّةِ عَلَى وِزَانِ وَاحِدٍ كَمَا أَنَّهَا فِي الْعُلُومِ وَالصَّنَائِعِ كَذَلِكَ فَرُبَّ عَمَلٍ صَالِحٍ يَدْخُلُ بِسَبَبِهِ عَلَى رَجُلٍ ضَرَرٌ أَوْ فَتْرَةٌ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرَ وَرُبَّ عَمَلٍ يَكُونُ حَظُّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِلِ أَقْوَى مِنْهُ فِي عَمَلٍ آخَرَ وَيَكُونُ بَرِيئًا فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ دُونَ بَعْضٍ فَصَاحِبُ هَذَا التَّحْقِيقِ الْخَاصِّ هُوَ الَّذِي رُزِقَ نُورًا يَعْرِفُ بِهِ النُّصُوصَ وَمَرَامِيَهَا وَتَفَاوُتَ إدْرَاكِهَا وَقُوَّةَ تَحَمُّلِهَا لِلتَّكْلِيفِ وَصَبْرِهَا عَلَى حَمْلِ أَعْبَائِهَا أَوْ ضَعْفِهَا وَيَصْرِفُ الْتِفَاتَهَا إلَى الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ وَعَدَمِ الْتِفَاتِهَا فَهَذَا النَّوْعُ أَعْلَى وَأَدَقُّ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَمَنْشَؤُهُ فِي الْحَقِيقَةِ عَنْ نَتِيجَةِ التَّقْوَى الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: ٢٩] وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحِكْمَةِ قَالَ تَعَالَى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: ٢٦٩] قَالَ مَالِكٌ مِنْ شَأْنِ ابْنِ آدَمَ أَنْ لَا يَعْلَمَ ثُمَّ يَعْلَمَ أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: ٢٩] .
وَقَالَ أَيْضًا إنَّ الْحِكْمَةَ مَسْحَةُ مَلَكٍ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ وَقَالَ الْحِكْمَةُ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَقَالَ أَيْضًا يَقَعُ بِقَلْبِي أَنَّ الْحِكْمَةَ الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ وَأَمْرٌ يُدْخِلُهُ اللَّهُ الْقُلُوبَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ هُوَ الِاجْتِهَادُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَ حَتَّى يَنْقَطِعَ أَصْلُ التَّكْلِيفِ وَذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَبِخِلَافِ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ فَإِنَّهَا مِنْ أَفْرَادِ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَ قَبْلَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْخَاصَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ كُلِّيٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْوَقَائِعِ أَوْ أَكْثَرِهَا فَلَوْ فُرِضَ ارْتِفَاعُهُ لَارْتَفَعَ مُعْظَمُ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ أَوْ جَمِيعُهُ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ إنْ فُرِضَ فِي زَمَانٍ ارْتَفَعَتْ الشَّرِيعَةُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ الْوَقَائِعَ الْمُتَجَدِّدَةَ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَقَدَّمَ لِاتِّسَاعِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فَيُمْكِنُ تَقْلِيدُهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ فَلَا تَتَعَطَّلُ الشَّرِيعَةُ بِتَعَطُّلِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ كَمَا لَوْ فُرِضَ الْعَجْزُ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ دُونَ السَّائِرِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ فَوَضَحَ أَنَّهُمَا لَيْسَا سَوَاءً اُنْظُرْ الْمُوَافَقَاتِ إنْ شِئْت.
٢ -
(التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ) الْفَتْوَى مِنْ الْمُفْتِي كَمَا تَحْصُلُ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَهُوَ الْأَمْرُ الْمَشْهُورُ كَذَلِكَ تَحْصُلُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ كَمَا فِي مُوَافَقَاتِ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute