(وَثَالِثُهَا) قَوْله تَعَالَى «مَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا يَكُونُ إلَّا مَا أُرِيدَ» قَالَ الْعُلَمَاءُ التَّرَدُّدُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ كُلَّ شَخْصٍ أَنْتَ تُعَظِّمُهُ وَتَهْتَمُّ بِهِ فَإِنَّك تَتَرَدَّدُ فِي مُسَاءَتِهِ نَحْوُ وَلَدِك وَصَدِيقِك، وَمَنْ لَا تُعَظِّمُهُ كَالْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَعَدُوِّك فَإِنَّك إذَا خَطَرَ بِقَلْبِك إيلَامُهُ وَمُسَاءَتُهُ لَا تَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ بَلْ تُبَادِرُ إلَيْهِ، فَصَارَ التَّرَدُّدُ لَا يَقَعُ إلَّا فِي مَوْطِنِ التَّعْظِيمِ وَعَدَمُهُ فِي مَوْطِنِ الْحَقَارَةِ وَإِنْ كَانَ التَّرَدُّدُ فِي الْإِحْسَانِ انْعَكَسَ الْحَالُ فَيَحْصُلُ فِي حَقِّ الْحَقِيرِ دُونَ الْعَظِيمِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُتَحَدِّثُونَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: الْمُرَادِ بِذِكْرِ التَّرَدُّدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ مَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَبَّرَ بِاللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ عَمَّا يَلْزَمُهُ وَهُوَ نَفْسُهُ لَيْسَ مُرَادًا فَيَصِيرُ مَعْنَى الْحَدِيثِ: مَنْزِلَةُ الْمُؤْمِنِ عِنْدِي عَظِيمَةٌ وَجَمِيعُ مَا وَقَعَ فِي مَدْلُولِ هَذَا الْمُرَكَّبِ لَيْسَ مُرَادًا فَقَدْ قُصِدَ إلَى لَازِمِ اللَّفْظِ وَأُضِيفَ إلَيْهِ الْحُكْمُ وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ تَصَرُّفُ النِّيَّةِ فَإِنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْقَصْدُ بِعَيْنِهِ وَإِذَا صَحَّ الْقَصْدُ صَحَّتْ النِّيَّةُ فِي اللَّازِمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَهَذِهِ وُجُوهٌ وَاضِحَةٌ فِي دُخُولِ النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا فِي مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَبِهَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَمَّا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ نَفَيْنَاهُ فِيمَا عَدَا الْمُطَابَقَةَ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ فَجَوَابُهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالِاسْتِعْمَالَات دَلَّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ وَأَنَّ الْعَرَبَ أَجَازَتْ النِّيَّةَ فِي الِالْتِزَامِ كَمَا أَجَازَتْهَا فِي الْمُطَابَقَةِ ثُمَّ إنَّ الْأَصْلَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَجْرِ عَلَيْنَا.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُمْ إنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ النِّيَّةِ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا فَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ النُّصُوصِ وَالِاسْتِعْمَالَات يُبْطِلُ اسْتِقْرَاءَهُمْ وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمُ عَلَى النَّافِي.
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ لَوْ صَحَّ دُخُولُ النِّيَّةِ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا لَصَحَّ الْمَجَازُ فِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ لَازِمٌ قُلْنَا وَإِنَّهُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَنَا التَّجَوُّزُ لِكُلِّ لَازِمٍ لِأَنَّ الْعَلَاقَةَ عِنْدَنَا الْمُلَازَمَةُ وَهِيَ حَاصِلَةٌ بَلْ يَصِحُّ عِنْدَنَا الْمَجَازُ فِي غَيْرِ اللَّازِمِ كَالتَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الْجُزْءِ عَنْ الْكُلِّ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْجُزْءِ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ
(وَثَالِثُهَا قَوْله تَعَالَى «مَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا يَكُونُ إلَّا مَا أُرِيدَ» إلَى قَوْلِهِ فِي اللَّازِمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ.
قَالَ (فَهَذِهِ وُجُوهٌ وَاضِحَةٌ فِي دُخُولِ النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا فِي مُقْتَضَى اللُّغَةِ) قُلْت هُوَ كَمَا قَالَ إلَّا مَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِنْ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: ٣] قَالَ (وَبِهَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَمَّا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَصْلَ إنَّمَا هُوَ النِّيَّاتُ وَالْمَقَاصِدُ وَالْأَلْفَاظُ وَصْلَةٌ إلَى تَعْرِيفِهَا وَتَعَرُّفِهَا فَإِذَا صَرَفَتْ النِّيَّاتُ الْأَلْفَاظَ إلَى شَيْءٍ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ انْصَرَفَتْ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اشْتِمَالَ اللَّفْظِ عَلَى الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ مِنْ بَابِ الْعُمُومِ كَمَا زَعَمَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ.
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) مِنْهَا أَعْنِي السَّلْبِيَّةَ قَالَ الْأَمِيرُ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي كَوْنِهَا مُنْحَصِرَةً أَوَّلًا لَفْظِيٌّ وَأَنَّ الْأُصُولَ الْكُلِّيَّةَ كَالْمُخَالَفَةِ لِلْحَوَادِثِ تَحْتَهُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ جَوْهَرًا وَلَا عَرَضًا إلَخْ مُنْحَصِرَةٌ وَأَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ اهـ.
وَهِيَ كَقَوْلِنَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ وَلَا فِي حَيِّزٍ وَلَا فِي جِهَةٍ وَلَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١] فَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ نِسْبَتُهُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمُورٌ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاعْلَمْ أَنَّ السَّلْبَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى سَلْبَانِ سَلْبُ نَقِيصَةٍ نَحْوُ سَلْبِ الْجِهَةِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا وَسَلْبُ الْمُشَارِكِ فِي الْكَمَالِ وَهُوَ سَلْبُ الشَّرِيكِ وَهُوَ الْوَحْدَانِيَّةُ قَالَ الْأَصْلُ وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ نَقْلًا أَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالسَّلْبِيَّةِ وَعَدَمِ انْعِقَادِهِ غَيْرَ أَنِّي حَرَّكْت مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ وَالتَّخْرِيجِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَمِدَ الْفَقِيهُ عَلَيْهِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ السُّلُوبَ مِنْهَا سُلُوبٌ قَدِيمَةٌ نَحْوُ سَلْبِ الشَّرِيكِ وَهُوَ الْوَحْدَانِيَّةُ وَسَلْبِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ وَالْجَوْهَرِيَّةِ وَالْأَيْنِيَّةِ وَسَلْبِ جَمِيعِ الْمُسْتَحِيلَاتِ عَلَيْهِ تَعَالَى فَهَذِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا قَدِيمَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَقْرَبُ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَا لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ بِإِضَافَةِ اللَّفْظِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى نَحْوُ قَوْلِنَا وَوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِإِضَافَةِ اللَّفْظِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوُ قَوْلِنَا وَسَلْبِ الْجِسْمِ وَسَلْبِ الشَّرِيكِ فَإِنَّ انْعِقَادَ الْيَمِينِ بِهَا يَبْعُدُ حِينَئِذٍ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا سُلُوبًا وَمِنْهَا سُلُوبٌ حَادِثَةٌ نَحْوُ عَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِلْمِهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْعَفْوَ تَرْكُ الْمُعَاقَبَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْجِنَايَةِ وَالْحِلْمُ تَرْكُ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ مِنْ الْعِبَادِ حَادِثَةٌ وَالْمُتَأَخِّرُ عَنْ الْحَادِثِ حَادِثٌ فَهِيَ أَبْعَدُ عَنْ انْعِقَادِ الْيَمِينِ مِنْ انْعِقَادِهِ بِالسُّلُوبِ الْقَدِيمَةِ لِاجْتِمَاعِ الْحُدُوثِ فِيهَا مَعَ السَّلْبِ وَانْفِرَادِ السَّلْبِ فِي السُّلُوبِ الْقَدِيمَةِ فَاَلَّذِي يَقُولُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِالصِّفَاتِ الْوُجُودِيَّةِ يَقُولُ هَا هُنَا بِعَدَمِ الِانْعِقَادِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَاَلَّذِي يَقُولُ تَنْعَقِدُ