للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَهَذِهِ صِيغَةُ حَصْرٍ تَقْتَضِي انْحِصَارَ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ فِي النَّسِيئَةِ فَلَا يَحْرُمُ الْفَضْلُ وَجَوَابُهُمْ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «سُئِلَ عَنْ مُبَادَلَةِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْقَمْحِ بِالشَّعِيرِ فَقَالَ إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ وَلَا يَحْرُمُ مَا ذَكَرْتُمْ إلَّا أَنْ يَتَأَخَّرَ» فَسَمِعَ الْجَوَابَ دُونَ السُّؤَالِ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا فَالْقَاعِدَةُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقُ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالْبِقَاعِ وَالْمُتَعَلِّقَاتِ، وَهَذَا النَّصُّ عَامٌّ فِي أَفْرَادِ الرِّبَا مُطْلَقٌ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ فَيُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَالْمُطْلَقُ إذَا عُمِلَ بِهِ فِي صُورَةٍ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِيمَا عَدَا.

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ هُوَ الضَّابِطُ وَالْعِلَّةُ فِي مَنْعِ الرِّبَا فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي جِنْسٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ طَعَامًا أَوْ غَيْرَهُ لِذِكْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَجْنَاسًا لَا تَجْمَعُهَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ تَبْقَ إلَّا الْجِنْسِيَّةُ؛ وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَقْتَضِي الْمُقَابَلَةَ وَفِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ يَكُونُ الزَّائِدُ لَا مُقَابِلَ لَهُ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مُوجِبُ الْعَقْدِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَا يُفِيدُ مَقْصُودُهُ يَبْطُلُ وَجَوَابُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَاجَرَ إلَيْهِ عَبْدٌ فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ مِنْ سَيِّدِهِ» وَلِقَضَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةِ الْأَسْمَاءِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسِيَّةَ لَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَبِيعُوا جِنْسًا وَاحِدًا بِجِنْسِهِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ لِأَنَّهُ اللَّائِقُ بِفَصَاحَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُعَاوَضَةُ تَتْبَعُ غَرَضَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَقَدْ يُقْصَدُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ قُبَالَةَ الْجُمْلَةِ فَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ، وَقَالَ رَبِيعَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الضَّابِطُ لِرِبَا الْفَضْلِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا يُبَاعُ بَعِيرٌ بِبَعِيرٍ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ وُرُودُ النَّصِّ فِي الْمِلْحِ، وَلَيْسَ بِزَكَوِيٍّ وَخَصَّصَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ السِّتَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَدِيثِ.

وَالْحُكْمُ الْمُشْتَرَكُ تَكُونُ عِلَّتُهُ مُشْتَرَكَةً وَرَجَعَ إلَى الْعِلَّةِ الطَّعْمُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إنْ كَانَ قُوتًا وَإِدَامًا أَوْ فَاكِهَةً أَوْ دَوَاءَ الْآدَمِيِّينَ دُونَ مَا تَأْكُلُهُ الْبَهَائِمُ فَإِنْ أَكَلَهُ الْآدَمِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ رُوعِيَ الْأَغْلَبُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامًا لِلْآدَمِيِّينَ كَالْوَرْدِ وَالرَّيَاحِينِ وَنَوَى التَّمْرِ لَمْ يَدْخُلْهُ الرِّبَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» رَتَّبَ مَنْعَ التَّفَاضُلِ عَلَى اسْمِ الطَّعَامِ وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ، يَقْتَضِي عِلِّيَّةَ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ نَحْوُ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: ٢] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: ٣٨] وَسَيَأْتِي جَوَابُهُ وَخَصَّصَهُ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي تَثْبِيتِ عِلَّتِهِمْ الشَّبَهِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي اُشْتُقَّ مِنْهُ الِاسْمُ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ كُنْت أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» فَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّ الطَّعْمَ هُوَ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَزَادُوا عَلَى الطَّعْمِ إمَّا صِفَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الِادِّخَارُ عَلَى مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَإِمَّا صِفَتَيْنِ وَهُوَ الِادِّخَارُ وَالِاقْتِيَاتُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْبَغْدَادِيِّينَ وَتَمَسَّكُوا فِي اسْتِنْبَاطِ هَذِهِ الْعِلَّةِ

(أَوَّلًا) بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ الطَّعْمَ وَحْدَهُ لَاكْتَفَى بِالتَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّصِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ لَكِنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، بَلْ ذَكَرَهَا كُلَّهَا لِيُنَبِّهَ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ عَلَى أَصْنَافِ الْحُبُوبِ الْمُدَّخَرَةِ وَبِالتَّمْرِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَلَاوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ وَبِالْمِلْحِ عَلَى جَمِيعِ التَّوَابِلِ الْمُدَّخَرَةِ لِإِصْلَاحِ الطَّعَامِ

(وَثَانِيًا) بِأَنَّ مَعْقُولَ الْمَعْنَى فِي الرِّبَا لَمَّا كَانَ إنَّمَا هُوَ أَنْ لَا يَغْبِنَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضًا وَأَنْ تُحْفَظَ أَمْوَالُهُمْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْمَعَايِشِ وَهِيَ الْأَقْوَاتُ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعُمْدَتُهُمْ فِي اعْتِبَارِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلَّقَ التَّحْلِيلَ بِاتِّفَاقِ الصِّنْفِ وَاتِّفَاقِ الْقَدْرِ وَعَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِاتِّفَاقِ الصِّنْفِ وَاخْتِلَافِ الصِّنْفِ فِي «قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَامِلِهِ بِخَيْبَرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ إلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ يَدًا بِيَدٍ» رَأَوْا أَنَّ التَّقْدِيرَ أَعْنِي الْكَيْلَ أَوْ الْوَزْنَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ كَتَأْثِيرِ الصِّنْفِ اهـ. الْمُحْتَاجُ مِنْهُ مُلَخَّصًا.

وَقَالَ الْأَصْلُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ لَا مِنْ بَابِ قِيَاسِ الشَّبَهِ وَذَلِكَ أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ إمَّا فِي الْحُكْمِ كَقِيَاسِ الْوُضُوءِ عَلَى وُجُوبٍ فِي التَّيَمُّمِ النِّيَّةُ لِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ وَالطَّهَارَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.

وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ كَقِيَاسِ الْخَلِّ عَلَى الدُّهْنِ فِي مَنْعِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِهِ أَوْ فِي الْمَقَاصِدِ كَقِيَاسِ الْأَرُزِّ عَلَى الْبُرِّ بِجَامِعِ اتِّحَادِهِمَا فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا عَادَةً وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَقْصِدَ يُنَاسِبُ مَنْعَ الرِّبَا وَقِيَاسُ الْعِلَّةِ لَا يَكُونُ الْجَامِعُ فِيهِ إلَّا وَصْفًا مُنَاسِبًا وَضَابِطُ الْمُنَاسِبِ مَا يُتَوَقَّعُ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ حُصُولُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ كَتَرْتِيبِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى الْإِسْكَارِ لِدَرْءِ مَفْسَدَةِ ذَهَابِ الْعَقْلِ وَكَإِيجَابِ الْقِصَاصِ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ حِفْظِ النَّفْسِ أَيْ الْمُنَاسَبَةُ الْحَاصِلَةُ هُنَا مِنْ كَوْنِ الْأَعْيَانِ شَرِيفَةً بِالْقُوتِ أَوْ رُءُوسُ الْأَمْوَالِ وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ هِيَ أَظْهَرُ فِي أَنْ يُتَوَقَّعَ مِنْ تَرْتِيبِ مَنْعِ الرِّبَا عَلَيْهَا حُصُولُ مَصْلَحَةِ صَوْنِ الشَّرِيفِ عَنْ الْغَبْنِ بِذَهَابِ الزَّائِدِ هَدَرًا وَتَمْيِيزُهُ عَنْ الْخَسِيسِ بِكَثْرَةِ الشُّرُوطِ مِنْ أَنْ يُقَالَ

<<  <  ج: ص:  >  >>