وَفِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ يُنْشِئُ حُكْمًا، وَهُوَ إلْزَامُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قِيلَ بِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَيَكُونُ إنْشَاؤُهُ إخْبَارًا خَاصًّا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى إنْشَاءَهُ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ نَصًّا، وَرَدَ مِنْ قِبَلِهِ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا لَوْ قَضَى فِي امْرَأَةٍ عُلِّقَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الْمِلْكِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَيَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَحُكْمُ الْمَالِكِيِّ بِالنَّقْضِ، وَلُزُومِ الطَّلَاقِ نَصٌّ خَاصٌّ تَخْتَصُّ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمُعَيَّنَةُ، وَهُوَ نَصٌّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ رَفْعًا لِلْخُصُومَاتِ وَالْمُشَاجَرَاتِ، وَهَذَا النَّصُّ الْوَارِدُ مِنْ هَذَا الْحَاكِمِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُصُولِيَّةَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ قُدِّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ فَلِذَلِكَ لَا يَرْجِعُ الشَّافِعِيُّ يُفْتِي بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِجُمْلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْهَا لِتَنَاوُلِهَا نَصٌّ خَاصٌّ بِهَا مُخْرِجٌ لَهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ، وَيُفْتِي الشَّافِعِيُّ بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْعَامِّ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَمَ الشَّافِعِيُّ بِاسْتِمْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا خَرَجَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ دَلِيلِ الْمَالِكِيِّ وَأَفْتَى فِيهِ بِلُزُومِ النِّكَاحِ وَدَوَامِهِ، وَفِي غَيْرِهَا بِلُزُومِ الطَّلَاقِ لِأَجَلِ مَا أَنْشَأَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْحُكْمِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِنْشَاءِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
هُوَ تَنْفِيذٌ مَحْضٌ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحُكْمِ إلَّا التَّنْفِيذُ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَنَّ حَاكِمًا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِوَجْهِ الثُّبُوتِ أَنَّ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو مِائَةَ دِينَارٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهَا أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا، وَهَذَا الْمَوْضِعُ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ إنَّ مَوَاقِعَ الْإِجْمَاعِ لَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بَلْ الْإِخْبَارُ بِوَجْهٍ أَصْلًا قَالَ (وَفِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ يُنْشِئُ حُكْمًا، وَهُوَ إلْزَامُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قِيلَ بِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ) قُلْت إلْزَامُهُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ وَإِمْضَاؤُهُ بِعَيْنِهِ قَالَ (وَيَكُونُ إنْشَاؤُهُ إخْبَارًا خَاصًّا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ) قُلْت وَكَيْفَ يَكُونُ إنْشَاءً، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ خَبَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ هَذَا مَا لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ قَالَ (وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى إنْشَاءَهُ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ نَصًّا، وَرَدَ مِنْ قِبَلِهِ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِنْشَاءِ) قُلْت لَا كَلَامَ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْ كَلَامِهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَإِنْ تَبَايَنَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَفِي جَوَازِهِ بِالْقُرْعَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا اللَّخْمِيُّ كَمَا فِي الْأَصْلِ، وَفِي بِدَايَةِ حَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ لَا تَجُوزُ الْقُرْعَةُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِاتِّفَاقٍ إلَّا مَا حَكَى اللَّخْمِيُّ اهـ.
فَمُفَادُ الْأَصْلِ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ بِجَوَازِ الْقُرْعَةِ وَمَنْعِهَا حَكَاهُمَا اللَّخْمِيُّ عَنْ الْمَذْهَبِ فِي خُصُوصِ مَا إذَا تَبَايَنَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا، وَمَفَادُ الْحَفِيدِ أَنَّ الْقَوْلَ بِمَنْعِهَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مُطْلَقًا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِهَا فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ حَكَاهُ اللَّخْمِيُّ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ، وَسَيَأْتِي عَنْ الْبُنَانِيِّ عَلَى عبق مَا سَلَّمَ لَهُ الرَّهُونِيُّ وَكَنُونِ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مُطْلَقًا بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ أَخَذَهُ اللَّخْمِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ مِنْ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ مُقَيَّدًا بِمَا إذَا اسْتَوَى الْوَزْنُ وَالْقِيمَةُ فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْقِيمَةُ مُنِعَتْ الْقُرْعَةُ فَانْظُرْ ذَلِكَ (الْأَمْرُ الثَّالِثُ) مَا كَانَ فِي قَسْمِهِ إضَاعَةُ الْمَالِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَقَسْمِ الْيَاقُوتِيَّةِ (الْأَمْرُ الرَّابِعُ) مَا كَانَ فِي قَسْمِهِ إضَاعَةُ الْمَالِ لِحَقٍّ آدَمِيٍّ كَقَسْمِ الدَّارِ اللَّطِيفَةِ وَالْحَمَّامِ وَالْخَشَبَةِ وَالثَّوْبِ وَالْمِصْرَاعَيْنِ قَالَ الْأَصْلُ: وَلِكَوْنِ إضَاعَةِ الْمَالِ فِي هَذَا الْأَمْرِ لِحَقٍّ آدَمِيٍّ يَجُوزُ عِنْدَنَا قَسْمُهُ بِالتَّرَاضِي لِأَنَّ لِلْآدَمِيِّ إسْقَاطُ حَقِّهِ بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إضَاعَةِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَسْمَ مَا فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ تَغَيُّرُ نَوْعِ الْمَقْسُومِ اهـ.
بِتَوْضِيحٍ مَا، وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِسْمَةُ وَاحِدٍ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ لِلْفَسَادِ الدَّاخِلِ فِي ذَلِكَ اهـ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى مَنْعِ قِسْمَةِ ذَلِكَ لِمُطْلَقِ الْفَسَادِ كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ أَوْ لِحَقٍّ آدَمِيٍّ، وَلَكِنْ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْفَسَادِ لِحَقِّ اللَّهِ فَقَطْ كَمَا فِي الْأَصْلِ فَافْهَمْ قَالَ الْحَفِيدُ، وَاخْتَلَفُوا إذَا تَشَاحَّ الشَّرِيكَانِ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى الشِّيَاعِ، وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبِيعَ صَاحِبُهُ مَعَهُ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ أَحَدَهُمَا أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ الَّتِي أَعْطَى فِيهَا أَخَذَهُ.
وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ لَا يُجْبَرُ لِأَنَّ الْأُصُولَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَخْرُجَ مِلْكُ أَحَدٍ مِنْ يَدِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ، وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ فِي تَرْكِ الْإِجْبَارِ ضَرَرًا، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ الْمُرْسَلِ، وَقَدْ قُلْنَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا مَالِكٍ، وَلَكِنَّهُ كَالضَّرُورِيِّ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ اهـ.
قُلْت، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِالْقِيَاسِ الْمُرْسَلِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ، وَقَدْ حَقَّقْت فِي رِسَالَتِي انْتِصَارِ الِاعْتِصَامِ وَجْهَهَا، وَأَنَّ مَالِكًا لَمْ يَخْتَصَّ بِالْقَوْلِ بِهَا فَانْظُرْهَا إنْ شِئْت.
وَأَمَّا مَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ بِالْقُرْعَةِ فَهُوَ مَا عُرِّيَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ (وَتَوْضِيحُ