وَأَمَّا كَوْنُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُعْطَ عِلْمَ الْقِيَافَةِ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُعْطِيَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ أَخْبَرَ عَنْ ضَابِطِ الْقَائِفِينَ أَنَّ الشَّبَهَ مَتَى كَانَ كَذَا فَهُمْ يَحْكُمُونَ بِكَذَا إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى عِلْمَ الْقِيَافَةِ كَمَا نَقُولُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ الْأَطِبَّاءُ يُدَاوُونَ الْمَحْمُومَ بِكَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَبِيبًا، وَلَمْ يَحْكُمْ بِالْوَلَدِ لِشَرِيكٍ لِأَنَّهُ زَانٍ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِالْوَلَدِ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَإِنَّمَا وَطِئَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي الْأَمَةَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا عَدَمُ الْحَدِّ فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَتِهَا شُبْهَةً أَوْ مُكْرَهَةً أَوْ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُسْقِطُ الْحَدَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: ٨] الْآيَةَ أَوْ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَحَدِيثُ الْمُدْلِجِيِّ يَدُلُّ دَلَالَةً قَوِيَّةً عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَدَلَّ بِالشَّبَهِ عَلَى النَّسَبِ، وَلَوْ كَانَ بِالْوَحْيِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ تَرْدِيدٌ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ بَلْ كَانَ يَقُولُ هِيَ تَأْتِي بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا، وَهُوَ لِفُلَانٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّرْدِيدِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ إلَّا فِي مَوَاطِنِ الشَّكِّ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا بِالْوَحْيِ إذَا كَانَ لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةِ الْقِيَافَةِ وَبَسْطِ صُوَرِهَا بِالْأَشْبَاهِ، وَذَلِكَ مَطْلُوبُنَا فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا سُرَّ إلَّا بِسَبَبٍ حَقٍّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ «تَرِبَتْ يَدَاك، وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ» فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَنِيَّ يُوجِبُ الشَّبَهَ فَيَكُونُ دَلِيلَ النَّسَبِ، وَلَنَا أَيْضًا أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا وَلَدًا فَاخْتَصَمَا لِعُمَرَ فَاسْتَدْعَى لَهُ الْقَافَةَ فَأَلْحَقُوهُ بِهِمَا فَعَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ، وَاسْتَدْعَى حَرَائِرَ مِنْ قُرَيْشٍ فَقُلْنَ خُلِقَ مِنْ مَاءِ الْأَوَّلِ، وَحَاضَتْ عَلَى الْحَمْلِ فَاسْتَخْشَفَ الْحَمْلُ فَلَمَّا وَطِئَهَا الثَّانِي انْتَعَشَ بِمَائِهِ فَأَخَذَ شَبَهًا مِنْهَا فَقَالَ عُمَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ عِلْمٌ عِنْدَ الْقَافَةِ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ كَالتَّقْوِيمِ فِي الْمُتْلَفَاتِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَخَرْصِ الثِّمَارِ فِي الزَّكَوَاتِ وَتَحْرِيرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَوَاتِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَخْمِينٌ وَتَقْرِيبٌ.
وَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرْ أَبُو حَنِيفَةَ الشَّبَهَ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِجَمِيعِ الْمُتَنَازِعِينَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: ١٣] فَالْأَبُ وَاحِدٌ وقَوْله تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: ١١] فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ آبَاءً. وَعَارَضَ أَبُو حَنِيفَةَ حَدِيثَ الْعَجْلَانِيُّ بِوُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) بِمَا فِي الصِّحَاحِ «أَنَّ رَجُلًا حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَادَّعَى أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَلْ فِي إبِلِك مِنْ أَوْرَقَ فَقَالَ لَهُ نَعَمْ قَالَ لَهُ مَا أَلْوَانُهَا قَالَ سُودٌ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَشَرْطُهَا اسْتِفَاضَةٌ حَيْثُ لَا ... يَحْضُرُ مَنْ عَنْهُ السَّمَاعُ نُقِلَا
مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ ارْتِيَابٍ ... يُفْضِي إلَى تَغْلِيطٍ أَوْ إكْذَابٍ
وَيُكْتَفَى فِيهَا بِعَدْلَيْنِ عَلَى ... مَا تَابَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ الْعَمَلَا
(وَأَمَّا مَحَالُّهَا) وَمَا تُقْبَلُ فِيهِ فَفِيهِ طُرُقٌ
(إحْدَاهَا) لِعَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَا لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهِ كَالْمَوْتِ وَالنَّسَبِ وَالْوَقْفِ قَالَ وَفِي قَبُولِهَا فِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ
(الثَّانِيَةُ) لِابْنِ رُشْدٍ أَنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ تَصِحُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَلَّا تَصِحَّ فِي شَيْءٍ. الثَّالِثُ تَجُوزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: النَّسَبُ، وَالْقَضَاءُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْمَوْتُ؛ إذْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسْتَفِيضَ فَيَشْهَدَ فِيهَا عَلَى الْقَطْعِ. الرَّابِعُ عَكْسُهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ صَالِحٌ وَيَجْمَعُهَا قَوْلُك فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ الْقَاضِي نَكَحَ فَمَاتَ
(الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ) لِابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهَا تَجُوزُ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ وَقَعَ النَّصُّ عَلَيْهَا، وَإِيَّاهَا سَلَكَ النَّاظِمِ فَقَالَ:
وَأُعْمِلْت شَهَادَةُ السَّمَاعِ ... فِي الْحَمْلِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّضَاعِ
وَالْحَيْضِ وَالْمِيرَاثِ وَالْمِيلَادِ ... وَحَالِ إسْلَامٍ أَوْ ارْتِدَادِ
وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالْوَلَاءِ ... وَالرُّشْدِ وَالتَّسْفِيهِ وَالْإِيصَاءِ
وَفِي تَمَلُّكٍ لِمِلْكٍ بِيَدِ ... يُقَامُ فِيهِ بَعْدَ طُولِ الْمَدَدِ
وَحَبْسِ مَنْ حَازَ مِنْ السِّنِينَ ... عَلَيْهِ مَا يُنَاهِزُ الْعِشْرِينَ
وَعَزْلِ حَاكِمٍ وَفِي تَقْدِيمِهِ ... وَضَرَرِ الزَّوْجَيْنِ مِنْ تَتْمِيمِهِ
وَجُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ وَهَذَا فِيمَا عِنْدَهُ، وَحَضَرَهُ الْآنَ، وَعَدَّهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ إحْدَى وَعِشْرِينَ فَقَالَ:
أَيَا سَائِلِي عَمَّا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ ... وَيَثْبُتُ سَمْعًا دُونَ عِلْمٍ بِأَصْلِهِ
فَفِي الْعَزْلِ وَالتَّجْرِيحِ وَالْكُفْرِ بَعْدَهُ ... وَفِي سَفَهٍ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ
وَفِي الْبَيْعِ وَالْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ وَالرَّضَاعِ ... وَخُلْعٍ وَالنِّكَاحِ وَحِلِّهِ
وَزَادَ وَلَدُهُ سِتَّةً فَقَالَ:
وَفِي قِسْمَةٍ أَوْ نِسْبَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ ... وَمَوْتٍ وَحَمْلٍ وَالْمُقِرِّ بِأَهْلِهِ
وَمِنْهَا الْهِبَاتُ الْوَصِيَّةُ فَاعْلَمَنْ ... وَمُلْكٍ قَدِيمٍ قَدْ يُظَنُّ بِمِثْلِهِ
وَمِنْهَا وِلَادَاتٌ وَمِنْهَا حِرَابَةٌ ... وَمِنْهَا الْإِبَاقُ فَلْيُضَمَّ بِشَكْلِهِ
فَدُونَكُمَا عِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ سَبْعَةٍ ... تَدُلُّ عَلَى حِفْظِ الْفَقِيهِ وَنُبْلِهِ
أَبِي نَظَمَ الْعِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ وَاحِدٍ ... وَأَتْبَعْتهَا سِتًّا تَمَامًا لِفِعْلِهِ