للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْجَوْرِ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ فَحْوَى قَوْلِهِ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: ١٢] وَمُرَادٌ أَنَّ إلْزَامَ الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ بِالسُّجُودِ لِلْحَقِيرِ مِنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ فَهَذَا وَجْهُ كُفْرِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى لِذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ.

(مَسْأَلَةٌ) . أَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُمْ الْكُفْرَ عَلَى السَّاحِرِ، وَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْفُتْيَا فِي جُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ يَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ الْعَظِيمُ الْمُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ الْمُفْتِي وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلْفَقِيهِ مَا هُوَ السِّحْرُ، وَمَا حَقِيقَتُهُ؟ حَتَّى يُقْضَى

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

الْجَوْرِ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ، ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ فَحْوَى قَوْلِهِ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: ١٢] وَمُرَادُهُ أَنَّ إلْزَامَ الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ بِالسُّجُودِ لِلْحَقِيرِ مِنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُ لِامْتِنَاعِهِ أَوْ لِحَسَدِهِ أَوْ لَهُمَا مَعَ ذِكْرِهِ مِنْ التَّجْوِيرِ أَوْ التَّجْوِيرِ خَاصَّةً فَلَا مَانِعَ مِنْ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ: (فَهَذَا وَجْهُ كُفْرِهِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى لِذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ صَحِيحٌ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ الْجَهْلِ الْعَظِيمِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ مِنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ عَقْلًا وَسَمْعًا، وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ إنْ كَانَ مَا بَنَى عَلَيْهِ كَلَامًا صَحِيحًا

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَقَدْ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ إذَا الْتَزَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إحْضَارَ الْمُدَّعِي فِيهِ لِتَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَيْنِهِ فَإِنْ ثَبَتَ الْحَقُّ فَالْمُؤْنَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ، وَإِلَّا فَعَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ.

وَلَا تَجِبُ أُجْرَةُ تَعْطِيلِ الْمُدَّعَى بِهِ فِي مُدَّةِ الْإِحْضَارِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ إلَخْ مَعَ أَنَّ مَا قَالَهُ مِنْ وُجُوبِ الْإِحْضَارِ إنَّمَا هُوَ مَعَ قِيَامِ اللَّطْخِ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ التَّسَوُّلِيِّ هَذَا مَا زَادَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ عَلَى مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ مِنْ حَصْرِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَبْسِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّمَانِيَةِ الْأَوَّلُ فَلِذَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ لَيْسَ كَمَا قَالَهُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ أَهُوَ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْعَشَرَةَ لَا يَجُوزُ الْحَبْسُ فِيهِ. قَالَ الْأَصْلُ: وَلَا يَجُوزُ الْحَبْسُ فِي الْحَقِّ إذَا تَمَكَّنَ الْحَاكِمُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ مِثْلُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ فَإِنَّا نَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ، وَكَذَلِكَ إذْ ظَفِرْنَا بِدَارِهِ أَوْ بِشَيْءٍ يُبَاعُ لَهُ فِي الدَّيْنِ كَانَ هُنَا أَمْ لَا فَإِنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَا نَحْبِسُهُ فَإِنَّ فِي حَبْسِهِ اسْتِمْرَارَ ظُلْمِهِ، وَدَوَامَ الْمُنْكَرِ مِنْ الْمَطْلِ، وَضَرَرُهُ هُوَ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ، وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْحَاكِمُ عَلَى الْخَصْمِ فِي الْحَبْسِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْقُمَاشِ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ عَنْهُ أَخَذَهُ مَنْ عَلَيْهِ قَهْرًا، وَبَاعَهُ فِيمَا عَلَيْهِ، وَلَا يَحْبِسُهُ تَعْجِيلًا ابْنُ الْمُنَاصِفِ فِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ عَلَى مَأْخَذِ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا ضَرَبَ الْأَجَلَ لِلطَّالِبِ فِي إثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ قَبْلَ الْمَطْلُوبِ فَسَأَلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَطْلُوبِ كَفِيلًا بِوَجْهِهِ لِأَجْلِ الْخُصُومَةِ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْكَفِيلِ لَمْ يُحْبَسْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ لِلطَّالِبِ لَازِمْهُ إنْ شِئْت، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ فِيمَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا أَوْ شَيْئًا مُسْتَهْلَكًا، وَسَأَلَ الْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا بِذَلِكَ الْحَقِّ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ عَلَى الْمُخَالَطَةِ وَالْمُعَامَلَةِ.

وَمَا يُوجِبُ اللَّطْخَ، وَهُمْ حُضُورٌ فَإِنَّهُ يُوَكَّلُ بِالْمَطْلُوبِ حَتَّى يَأْتِيَ بِذَلِكَ اللَّطْخِ فِيمَا قَرُبَ مِنْ يَوْمِهِ، وَشَبَهُهُ اُنْظُرْ تَمَامُهَا فِي التَّهْذِيبِ أَفَادَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي التَّبْصِرَةِ، وَقَدْ عَقَدَ فَصْلًا لِأَمْثِلَةِ الْأَقْسَامِ الْعَشَرَةِ مَعَ تَقْسِيمِهِ الْقِسْمَ الثَّالِثَ، وَهُوَ حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ دَفْعِ الْحَقِّ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ حَبْسُ تَضْيِيقٍ وَتَنْكِيلٍ، وَحَبْسُ تَعْزِيرٍ وَتَنْكِيلٍ، وَحَبْسُ تَعْزِيرٍ وَتَأْدِيبٍ، وَحَبْسُ مَلُومٍ وَاخْتِيَارٍ، وَبَيَانُ مَنْ لِكُلِّ قِسْمٍ، وَأَمْثِلَتُهُ، وَفَصْلًا لِبَيَانِ أَنَّ قَدْرَ مُدَّةِ الْحَبْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ وَمُوجِبَاتِهِ فَانْظُرْ.

(فَائِدَةٌ) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي التَّبْصِرَةِ فِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ السِّجْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَصْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: ٨] أَيْ سِجْنًا وَحَبْسًا قَالَ أَوْ السِّجْنُ، وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ الْعُقُوبَاتِ فَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: ٢٥] أَنَّ السِّجْنَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الْبَلِيغَةِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَرَنَهُ مَعَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَقَدْ عَدَّ يُوسُفُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الِانْطِلَاقَ مِنْ السِّجْنِ إحْسَانًا إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: ١٠٠] وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّجْنَ الطَّوِيلَ عَذَابٌ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ إذْ أَوْعَدَ مُوسَى {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: ٢٩] وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَلَمَّا اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ ابْنَهُ عَلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَوْصَاهُ أَنْ لَا يُعَاقِبَ فِي حِينِ الْغَضَبِ، وَحَضَّهُ عَلَى أَنْ لَا يَسْجُنَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ ثُمَّ يَرَى رَأْيَهُ، وَكَانَ يَقُولُ إنَّ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ السِّجْنَ كَانَ حَلِيمًا، وَلَمْ يُرِدْ مَرْوَانُ طُولَ السِّجْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ السِّجْنَ الْخَفِيفَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ، وَقَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ اعْلَمْ أَنَّ الْحَبْسَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ هُوَ السِّجْنُ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَمَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتٍ أَوْ فِي مَسْجِدٍ أَوْ كَانَ يَتَوَكَّلُ نَفْسَ الْغَرِيمِ أَوْ وَكِيلَهُ عَلَيْهِ، وَمُلَازَمَتُهُ لَهُ.

وَلِهَذَا أَسْمَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

<<  <  ج: ص:  >  >>