للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكرم، وأبعدُ من الدّنس، ومن جمعهما فقد استكمل الفضل. . . وقال شاعر:

لا تَحْسَبَنَّ المَوْتَ مَوْتَ البِلَى ... وإنّما الموتُ سُؤالُ الرِّجالِ

كِلاهُما موتٌ ولكنَّ ذا ... أشدُّ من ذاكَ على كلِّ حالِ

وقد كانوا يتحمّلون المكارِهَ تفادِياً من السؤال: روى الأصمعي قال: مررت بكنّاس بالبصرة يكنس كَنيفاً ويغنّي:

أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا ... لِيَومِ كَريهةٍ وسِدادِ ثَغْرِ

فقلت له: أمّا سِدادُ الكنيف فأنت مليءٌ به، فلا علمَ لي بك كيف أنت فيه! وكنتُ حديثَ السنِّ فأردت العبثَ به - فأعرض عنّي مليّاً ثم أقبل عليَّ وأنشد متمثِّلاً:

وأُكْرِمُ نفْسي إنّني إن أهَنْتُها ... وحَقِّكَ لم تَكْرُمْ على أحدٍ بعْدِي

قال الأصمعي: فقلت له: والله، ما يكون من الهوان شيءٌ أكثر مما بذلْتَها له، فبأي شيء أكرمتها؟ فقال: بلى، والله، إن من الهوان لشَرّاً مما أنا فيه، فقلت: وما هو؟ فقال: الحاجة إليك وإلى أمثالك من الناس، فانصرفت عنه أخزى الناس. . . ومثله ما رُوي أن أبا عمرو

بن العلاء قال: اجتزت بكنّاس ينشد:

إذا أنْتَ لم تَعْرِفْ لنفسِك قَدْرَها ... هَواناً لها كانَتْ على الناسِ أهونا

فقلت: سبحانَ الله، أتنشد مثلَ هذا وتتعاطى مثلَ هذا الفعل؟ فقال: إنَّ إنشادي لمثله أصارني إلى هذا، فَراراً من ذلِّ السؤال. . .