للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال أحدُ الظُّرفاء: إنَّ الدُّنيا قد اسْتَودَقَتْ وأنْعَظَ الناس: اسْتَوْدَقَتْ يقال: وَدَقَت الفرسُ تَدِقُ وَدْقاً واسْتَوْدَقَتْ: إذا طلَبَتِ الفَحْلَ وقال حكيم: مَنْ أرادَ الدُّنيا فلْيَتَهيَّأ للذلّ. ومن كلمةٍ لعليِّ بن أبي طالب: أهلُ الدُّنيا كَرَكْبٍ يُسارُ بِهِمْ وهم نِيام. ومن كلامِه رضِيَ اللهُ عنه - وقد قال له رجلٌ وهو في خُطبة: يا أميرَ المؤمنين، صِفْ لنا الدُّنيا فقال: ما أصِفُ من دارٍ أوَّلُها عَناءٌ وآخِرُها فناءٌ، في حَلالِها حسابٌ وفي حرامِها عِقابٌ، مَنْ صحَّ فيها ما أمِنَ، ومَنْ مَرِضَ نَدِمَ ومن اسْتَغْنى فُتِنَ، ومَنِ افتقرَ فيها حَزِنَ! وقال أيضاً: إنَّما المرءُ في الدنيا

غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فيه المَنايا، ونهبٌ للمَصائبِ، ومع كلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ، وفي كلِّ أُكْلَةٍ غَصَصٌ، ولا ينال العبدُ فيها نعمةً إلا بفِراق أخرى، ولا يستقبل يوماً من عُمْرِه إلا بهَدْمِ آخرَ مِنْ أجَلِه، فنحنُ أعوانُ الحُتوفِ، وأنفسُنا تسوقُنا إلى الفَناء، فمن أين نَرْجو البَقاء! وهذا الليلُ والنهارُ لم يَرْفعا من شيءٍ شَرَفاً إلا أسرعا الكرَّةَ في هَدْمِ ما بَنَيا، وتفريقِ ما جَمَعا، فاطلبوا الخيرَ وأهلَه، واعْلَموا أنَّ خيراً من الخيرِ مُعْطيه، وشَرّاً من الشَّرِّ فاعِلُه. . . الغرض: الهدف، والنّهب: المالُ المنهوبُ غنيمةً والجمعُ نِهابٌ وقد تقدّم شرحُ الجرعة والشرق والغصص، وقولُه: فنحنُ أعوانُ الحتوفِ فالحتف: الموت، ومعنى أنّنا أعوانُ الموتِ: أنّا نأكلُ ونشربُ ونُجامع ونركب الخيل والسفن والطائرات ونحوها ونتصرّف في أسبابِنا وحاجِنا ومآربِنا، والموتُ إنّما يكونُ بأحدِ هذه الأمور إمّا من أخلاطٍ تُحدثها المآكل والمشارب، أو مِنْ سقطةٍ يسقط الإنسانُ من دابّةٍ هو راكبُها أو من ضعفٍ يلحَقُه من الجِماعِ المُفرط أو مُصادمات واصطكاكات تصيبُه عند تصرُّفه في مآربِه وحَرَكتِه وسَعْيِه ونحو ذلك،