للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ، فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ، فَقَالَ أَبُو نَائِلَةَ وَهُوَ في الطَّرِيقِ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ طِيبًا أَعْطَرَ قَطُّ.

فَقَالَ كَعْبٌ: عِنْدِي أَعْطَرُ نِسَاءِ العَرَبِ، فَقَالَ أَبُو نَائِلَةَ: أتأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ رَأْسَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَدْخَلَ يَدَهُ في رَأْسِهِ فَشَمَّهُ.

ثُمَّ مَشَى سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: أَعُودُ -أَيْ لِشَمِّ رَأْسِهِ- قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ، فَعَادَ لِمِثْلِهَا حَتَّى اطْمَأَنَّ: ثُمَّ مَشَى سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: أَعُودُ -أَيْ لِشَمِّ رَأْسِهِ- قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ في رَأْسِهِ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ، قَالَ أَبُو نَائِلَةَ لِأَصْحَابِهِ: دُونَكُمْ عَدُوَّ اللَّهِ، فَاخْتَلفتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ، لَكِنَّهَا لَمْ تُغْنِ شَيْئًا، فَأَخَذَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ مِعْوَلًا، فَوَضَعَهُ في ثُنَّتِهِ (١)، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ عَانَتَهُ، فَوَقَعَ عَدُوُّ اللَّهِ قَتِيلًا، وَكَانَ قَدْ صَاحَ صَيْحَةً شَدِيدَةً أَفْزَعَتْ مَنْ حَوْله، فَلَمْ يبقَ حِصْنٌ إِلَّا أُوقِدَتْ عَلَيْهِ النِّيرَانُ.

وَرَجَعَتْ هَذِه المَجْمُوعَةُ، وَقَدْ أُصِيبَ الحَارِثُ بنُ أَوْسٍ بِذُبَابِ (٢) بَعْضِ سُيُوفِ أَصْحَابِهِ، فَجُرِحَ وَنَزَفَ الدَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَتْ هَذِهِ المَجْمُوعَةُ حَرَّةَ العَرِيضِ، رَأَتْ أَنَّ الحَارِثَ لَيْسَ مَعَهُمْ، فَوَقَفُوا سَاعَةً حَتَّى أَتاهُمْ يتبَعُ آثارَهُمْ، فَاحْتَمَلُوهُ، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بَقِيعَ الغَرْقَدِ كَبّروا، فَسَمعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَكْبِيرَهُمْ، فَعَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوهُ، فَكَبَّرَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَذَلِكَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفْلَحَتِ الوُجُوهُ"، قَالُوا: وَوَجْهُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَحَمِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اللَّهَ تَعَالَى عَلَى قَتْلِهِ، وَتَفَلَ عَلَى جُرْحِ الحَارِثِ فَبَرِئ.


(١) الثُنَّةُ: بضم الثاء وتشديد النون: ما بين السرة والعانة من أسفل البطن.
(٢) ذُبابُ السيف: طرفه الذي يضرب به.

<<  <   >  >>