للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم، دخلوا في الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا، قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش؟، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له، حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة (١)، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أشيروا علي أيها الناس، أترون أن أميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم أن يصدونا عن البيت فنصيبهم؟، فإن قعدوا، قعدوا موتورين (٢) محروبين (٣)، وإن يَجِيئُوا (٤)، تكن عنقاً قطعها الله، أو ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟ "، فقال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامداً لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "امضوا على اسم الله".

قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: حضرت العصر (٥) يوم الحديبية وليس معنا ماء غير فضلة، فجهش (٦) الناس نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " ما لكم؟ "، قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هل في القوم من ماء؟ "، فجاء رجل بإداوة (٧) فيها شيء من ماء، " فصبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قدح (٨) ووضع كفه في الماء والقدح، ثم قال: بسم الله، ثم قال: أسبغوا الوضوء "، قال جابر: فوالذي ابتلاني ببصري، لقد رأيت العيون عيون الماء يومئذ تخرج من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتوضأ الناس وشربوا أجمعون، لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا ألفا وأربع مائة. ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور؟، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فرغ الوضوء ".

حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن خالد بن الوليد بالغميم (٩) في خيل لقريش طليعة (١٠)؛ فخذوا ذات اليمين". فسلكوا ذات اليمين، بين ظهري الحمض (١١)، على طريق تخرجه على ثنية المرار (١٢) والحديبية، من أسفل مكة، فوالله ما شعر بهم خالد، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش (١٣) قد خالفوا عن طريقهم، نكصوا راجعين إلى قريش نذيراً لقريش، وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها؛ بركت به راحلته،


(١) السالفة: صفحة العنق، وهما سالفتان من جانبيه، أراد: حتى يفرق بين رأسي وجسدي.
(٢) الموتور: المقطوع، أي: الذي قطع حقه ولم يدركه، وقد تطلق على صاحب الدم الذي لم يأخذ بثأره.
(٣) المحروب: المهزوم المهموم.
(٤) في بعض النسخ: نَجَوْا. وفي بعضها: يحنون، وفي بعضها: يجيئون، من المجيء. وفي بعضها: جَاؤُوا.
(٥) أي: وقت صلاتها.
(٦) الجهش: أن يفزع الإنسان إلى الإنسان ويلجأ إليه.
(٧) الإداوة: إناء صغير من جلد يحمل فيه الماء وغيره.
(٨) القدح: من الآنية، يروي الرجلين.
(٩) الغميم: موضع قريب من مكة بين رابغ والجحفة.
(١٠) الطليعة: مقدمة الجيش، أو الذي ينظر للقوم، لئلا يدهمهم عدو.
(١١) الحمض: ما ملح وأمرّ من النبات، وهي كالفاكهة للإبل.
(١٢) الثنِيَّة: هو الطريق العالي في الجبل. و المِرارُ: بكسر الميم، وبضمها: موضعٌ بين مكة والمدينة من طريق الحديبية.
(١٣) القترة: الغبار أو شبه الدخان.

<<  <   >  >>