ثم جاءت جماعةٌ مِن المُسافرينَ فأرسَلوا مَن يطلُبُ لهم الماءَ، فلمَّا أنزل دَلْوَه في البئرِ ليحضر الماء؛ تعلَّقَ بها يوسُف، فقال ذلك الوارِدُ: يا بُشرايَ هذا غلامٌ. وأخفَى أولئك المسافرون أمرَ يوسُفَ، وجعَلوه بضاعةً وعزَموا على بيعِه، وأخذوه معهم من فلسطين وباعوه في مصر بثَمَنٍ قليلٍ مِن الدَّراهمِ (١)، وكانوا زاهدينَ فيه، راغبينَ في التخَلُّصِ منه، واشتَراه منهم عزيزُها- وهو الوزيرُ- وقال لامرأتِه: أحسِني مُعامَلتَه، واجعلي مَقامَه عندنا كريمًا؛ لعلَّنا نستفيدُ مِن خِدمتِه أو نتبناه.
وبذلك أنجى اللهُ يوسُفَ مِن الجُبِّ (البئر)، وجَعَل وزيرَ «مصر» يَعطِفُ عليه، وعَلَّمَه الله تفسيرَ الرُّؤى، ومعاني كتُبِ الله وسُنَن الأنبياءِ. ولَمَّا بلغ يوسُفُ مُنتهى قوَّتِه في شبابِه أعطاه الله النُّبوَّةَ والعِلمَ، جزاءً على إحسانِه وصبره.
ولما كان يوسف بالغ الحسن والجمال تعلقت امرأة الوزير بحبه وخططت لإيقاعه في معاشرتها، فتهيأت وتزينت ودعته إلى نَفسِها، وغلَّقَت الأبوابَ عليها وعلى يوسُفَ، وقالت: هلمَّ إليَّ، فقال: معاذَ اللهِ! أعتَصِمُ به وأستجيرُ مِن الذي تدعِينَني إليه مِن خيانةِ سَيِّدي الذي أحسنَ مَنزِلتي وأكرَمَني، فلا أخونُه في أهلِه؛ إنَّه لا يُفلِحُ مَن ظَلمَ فَفَعل ما ليس له فِعلُه.
ولما استنفدت خططها وحيلها ولم تحصل على ما تريد منه؛ غضبت من امتناعه وتحفظه، وهمّت أن تضربه على تمنّعه وعصيانه أوامرها وهي امرأة سيده، وهمّ يوسف أن يدفعها أو يضربها لغضبه من شناعة ما بدر منها وإصرارها على السوء وإيقاعه فيه، مع أنه وعظها ونبهها إلى شناعة ما تدعوه إليه، لكنه -بما علَّمه الله من حسن التدبير- أدرك أن بذل قوته في دفعها عن نفسه قد يُتَّخَذُ عليه حُجَّةً أنه أراد بقوته إجبار المرأة الأضعف على مراد سيء، ورأى أن ترك ضربها وترك دفعها عن نفسه والإعراض عنها والسعي في الخروج من المكان -حتى تكون هي التي تعتدي عليه-؛ فإنه يكون برهاناً -من توفيق ربه- يشهد بنزاهته، فرأى بعد الوعظ أن يكتفي بالإعراض عنها والانصراف عنها أسرع ما يمكن؛ فإن خرج من المكان؛ كان أسلم له، وإن اعتدت عليه كان برهاناً على براءته، وهذا من فضل الله وتعليمه لنبيه، فهو سبحانه يصرف عن نبيه السُّوءَ والفاحِشةَ في جميعِ أمورِه؛ فيوسف من الأنبياء المُطَهَّرينَ المُصطَفَينَ للرِّسالةِ، الذين أخلَصَهم الله من الشِّركِ والسُّوءِ والفَحشاءِ.