للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا المعنى جار في تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيّده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيد، فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ. وكذلك العام مع الخاص؛ إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ‍، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ، إلا أن اللفظ‍ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول. والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق.

فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ‍ النسخ في جملة هذه المعاني؛ لرجوعها إلى شيء واحد اهـ‍ (١).

وسرد الشاطبيّ بعد هذا التحقيق جملة وافرة من الأمثلة التي توضحه. فإذا تقرر هذا، فليس صحيحا أن نحاكم أقوالهم على مصطلح نشأ بعدهم - إلا ما كان من قولهم في معنى ذلك المصطلح -؛ إذ إن منازعة المتأخر لهم في آية أهي محكمة أو منسوخة؟ نزاع منفكة جهته، وليس له أن ينقل الآثار عنهم في نسخ آية، وهي من قبيل التخصيص أو التقييد ونحو ذلك، ويحكم عليها بالنسخ على ما اصطلح عليه الأصوليون.

لكنّ النّاظر في كتب التفسير يجد بعض المفسرين - الذين جاءوا بعد تحديد مصطلح النسخ بمفهومه عند الأصوليين - ينقلون أقوال الصحابة والتابعين في النسخ، ويجعلونها قسيمة الإحكام ويضعّفونها (٢)، وأحيانا ربما مال بعضهم إلى القول بها على الرغم أنها ليست من قبيل النسخ الاصطلاحي عند المتأخرين، بل هي إما تقييد مطلق أو تخصيص عام، أو استثناء أو نحو ذلك.

وفي الأمثلة التطبيقية على القاعدة إحالات إلى كثير من أمثلة ذلك.


(١) الموافقات (٣/ ١٠٨). وانظر نحو هذا البيان لمفهوم النسخ عند السلف في إعلام الموقعين (١/ ٣٥)، ومحاسن التأويل (١/ ٣٢)، والنسخ في القرآن لمصطفى زيد (١/ ١٠٦).
(٢) انظر على سبيل المثال إلى قول ابن الجوزي بعد أن حكى عن السدي النسخ في قول الله تعالى:
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [البقرة: ٢٢٩]. قال السدي: منسوخ بالاستثناء وهو قوله:
إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ [البقرة: ٢٢٩]. -

<<  <  ج: ص:  >  >>