وكما إن الورع ينتهي بالسالك إلى الزهد، كذلك ينتهي به الزهد - إذا صدقت إرادته - إلى التصوف، فالزهد على ذلك أول التصوف كما إن الورع أو الزهد والقناعة أول الرضا، والتوكل أول التسليم.
الفرق بين الزهد والتصوف. - إن للصوفية طريقتين في السلوك: فمنهم من يستحب الرجاء على الخوف، وهؤلاء قلما تجد في عباراتهم إلا ذكر الرجاء والمحبة، ومنهم من يفضل للسالك الخوف على الرجاء، والسهر وردي يميل في عوارفه إلى الطريقة الأولى، فجعل مبنى الزهد على الخوف، ومبنى التصوف على الحب والرخاء ومن أنصار الطريقة الثانية أبو سليمان الداراني القائل: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا كان الغالب عليه الرجاء فسد، وأبو سليمان هذا من صوفيه الشام وأركان التصوف، وأهل طريقته هذه يشبهون القلب في سيره إلى الله بطائر فالمحبة رأسه، والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى عدم الجناحان فهو عرضة صائد وكاسر.
أما طريقة الرسول، وفيها الأسوة الحسنة، فمبنية على تغليب الخوف على الرجاء كيف وهو القائل: شيبتني هود وأخواتها سورة الواقعة، وإذا الشمس كورت، وعم يتساءلون، ومن اجله صحابته الزاهدين معاذ بن جبل القائل: إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه، ومما يدل على خوف الصوفي من النار ما حدث به ابن القارح في رسالته قال: حدثني من أثق به ولا اتهمه عن أبيه وكان زاهدا، قال: كنت مع أبي بكر الشبلي ببغداد في الجانب الشرقي بباب الطاق، فرأينا شاويا قد اخرج حملا من التنور، وإلى جانب قد عمل حلاوي فالوذجا، فوقف ينظر إليهما، وهو ساه مفكر، فقلت: يا مولاي، دعني آخذ من هذا وهذا ورقاقا وخبزا، ومنزلي قريب، تشرفني بان تجعل راحتك اليوم عندي فقال: يا هذا، أظننت إني قد اشتهيتهما؟ وإنما فكري في إن الحيوان كله، لا يدخل النار إلا بعد الموت، ونحن ندخلها أحياء:
يا رب عفوك عن ذي شيبة وجل ... كأنه من حذار النار مجنون
قد كان ذمم أفعالا مذممة ... أيام ليس له عقل ولا دين
ويرى الأستاذ نيكلسون (١): إن الحب قوام التصوف، وانه قلما يلتئم لذلك مع روح المسلم